حكيم ألادي نجم الدين

الأحد، 15 مايو 2022

خليج غينيا كمحور الحرب الباردة القادمة بإفريقيا

مايو 15, 2022
خليج غينيا كمحور الحرب الباردة القادمة بإفريقيا

يتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين بسبب خطة صينية لإقامة قاعدة عسكرية بحرية في المحيط الأطلسي بغينيا الاستوائية؛ ما يؤشر على أن خليج غينيا سيكون محور التنافس الدولي بإفريقيا في السنوات القادمة.


ولنتحدث أولا عن أهمية خليج غينيا:


يحتل خليج غينيا مكانة استراتيجية لكونه في الجزء الشمالي الشرقي من المحيط الأطلسي الاستوائي من "كيب لوبيز" في الغابون، شمالًا وغربًا إلى رأس النخيل في ليبيريا. ويمتد الخليج من السنغال إلى أنغولا، ويغطي ما يقرب من 6000 كيلومتر من الساحل. 

وبالتالي كان خليج غينيا منطقة شحن مهمة لنقل النفط والغاز والبضائع من وإلى وسط وجنوب إفريقيا وأماكن أخرى.


وتضم منطقة خليج غينيا 17 دولة إفريقية من السنغال إلى أنغولا, وتتكون دول حوض الخليج من ليبيريا وساحل العاج وغانا وتوغو وبنين وغينيا كوناكري ونيجيريا والكاميرون وغينيا الاستوائية والغابون وساو تومي-برينسيبي وجمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأنغولا.


وفيما يتعلق بالموارد الطبيعية؛ يتمتع خليج غينيا باحتياطات هائلة من الهيدروكربونات والمعادن (الماس والقصدير والكوبالت), وموارد سمكية جعلتْه أحد أغنى مناطق الصيد في العالم. ويمثّل الخليج 25 في المائة من الحركة البحرية الأفريقية ويحوي قرابة 20 ميناءًا تجاريًا.


وفي عام 2001 تأسست "لجنة خليج غينيا" بموجب المعاهدة الموقعة في ليبرفيل بدولة الغابون. وتضم اللجنة أنغولا وساو تومي-برينسيبي والغابون  وغينيا الاستوائية والكونغو ونيجيريا. وتهدف اللجنة إلى التعاون وتعزيز السلام والأمن لتحقيق التنمية المتناغمة للدول الأعضاء.


وعودة إلى الموضوع الرئيس:

فقد كشف تقرير حديث أن الصين تكثّف خططها لإنشاء قواعد بحرية في شرق وغرب القارة، وأنّ إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" اكتشفت هذه الخطة في العام الماضي مما أثار استياءها. وكانت النتيجة أن عزمت الولايات المتحدة الأمريكية بحث طرق اعتراض الخطة وعدم السماح للبحرية الصينية بتعزيز وجودها الإفريقي.


وقد نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" في ديسمبر 2021 عن تقارير استخباراتية أمريكية سرية بأن الصين تعتزم إقامة قاعدة في ميناء "باتا" الواقع على الساحل الأطلسي لدولة غينيا الاستوائية الواقعة في وسط أفريقيا والتي يبلغ عدد سكانها حوالي مليوني شخص فقط. 


وفي وجهة نظر المسؤولين الأمركيين يكمن الخطر في أن الخطة ستمنح الصين وجودًا بحريًا على المحيط الأطلسي، وستسهّل عمليات سفن جيش التحرير الشعبي الصيني (PLAN) من خلال إعادة تسليحها وإعادة تجهيزها نحو الساحل الشرقي للولايات المتحدة, مما يعني تهديدا للمصالح الأمريكية وفقا لصحيفة "وول ستريت جورنال".


ومن وجهة نظري الشخصي:


تؤكد جميع التطورات المتعلقة بموضوع خليج غينيا على أن هناك خطوات استباقية صينية للتأثير في "لجنة خليج غينيا" من خلال بعض أعضائها المقربين لها, وأننا سنرى قريبا تحالفات وخططا دولية مختلفة ستسعى أصحابها من خلالها الحصول على حصة من الخليج وخيراته. بينما الأفارقة أصحاب الخليج بعيدون عن المعادلة؛ فالاستياء الأمريكي من الخطة الصينية لإقامة قاعدة عسكرية بحرية في الخليج لا يعني أن أمريكا تقاتل من أجل المصالح الإفريقية, مع العلم أن هناك مساعي لإنشاء تحالف أمريكي-أوروبي بهدف مواجهة الصين في خليج غينيا.


كما أن الخطة الصينية لا تعني أن الصين تهتم لمصلحة الأفارقة رغم المساعدة التي تقدمها الصين لـ "بناء القدرات" في المنطقة بما في ذلك تسليم زوارق وسفن دورية حديثة إلى أساطيل خليج غينيا لمواجهة القرصنة. بل يمكن القول بأن الهدف من تقديم الصين لهذه المساعدات هو لتعزيز نفوذها, حيث كان الصيد الجائر الذي تمارسه الصين منذ السنوات الماضية في الخليج يهدّد تنمية قطاع صيد الأسماك في غرب إفريقيا وتعيق أعمال الصيادين الأفارقة ومصدر توظيفهم. ولم نرَ إلى اليوم خطوة جدية من الحكومات الإفريقية المعنية ضد التجاوزات الصينية في مياهها. 


أضيف إلى ما سبق أن ما يثير الاهتمام الدولي في خليج غينيا؛ أن الخليج موطن 4.5 في المئة من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم و 2.7 في المئة من احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة. وثلثا هذه الاحتياطيات يتركز داخل المنطقة الاقتصادية التابعة لدولة نيجيريا التي يشكل قطاعها النفطي 75 في المائة من إيرادات الدولة و 90 في المائة من إجمالي صادراتها.


وأخيرا, يمكن النظر إلى خطة الصين لإقامة قاعدة بحرية في غينيا الاستوائية كاستجابة صينية للوجود العسكري الأمريكي في تايوان وتوغلات البحرية الأمريكية في بحر الصين. وهذه الطموحات الصينية – كما لاحظ كلّ من "فوستينو هنريكي" و "فرانسوا ميسير" قد تسبب أزمة مماثلة لما حدثت في كوبا في ستينيات القرن الماضي، وقد تُزيد من اهتمام منظمة "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) بإفريقيا من خلال استئناف ما بدأته في عام 2006 عندما نظّمت عملية بحرية باسم "Steadfast Jaguar" في الرأس الأخضر (كيب فردي).


ـــــــــ

أهم المصادر والمراجع:

- Gulf of Guinea

https://www.britannica.com/place/Gulf-of-Guinea

- Tensions grow between Beijing and Washington over military bases in Gulf of Guinea

https://www.africaintelligence.com/the-continent/2022/05/13/tensions-grow-between-beijing-and-washington-over-military-bases-in-gulf-of-guinea,109784520-eve

- A Transatlantic Approach to Address Growing Maritime Insecurity in the Gulf of Guinea

https://www.csis.org/analysis/transatlantic-approach-address-growing-maritime-insecurity-gulf-guinea

- EU Maritime Security Factsheet: The Gulf of Guinea

https://www.eeas.europa.eu/eeas/eu-maritime-security-factsheet-gulf-guinea_en

- The History of Exploitation Behind the Gulf of Guinea Piracy

https://www.africanews.com/2021/02/08/the-history-of-exploitation-behind-the-gulf-of-guinea-piracy/

- China Seeks First Military Base on Africa’s Atlantic Coast, U.S. Intelligence Finds

https://www.wsj.com/articles/china-seeks-first-military-base-on-africas-atlantic-coast-u-s-intelligence-finds-11638726327


الخميس، 12 مارس 2020

المناصب التقليدية في نيجيريا.. وحكاية الأمير الذي عُزل مرّتين

مارس 12, 2020
المناصب التقليدية في نيجيريا.. وحكاية الأمير الذي عُزل مرّتين
Former Emir of Kano, Sanusi Lamido [PHOTO CREDIT @sanusilamidoofficial]

تكونت أقاليم الغرب والشرق والشمال في نيجيريا من أكثر من 300 إثنية عرقية، ولكل هذه الإثنيات المختلفة مجتمعاتها المستقلَّة (الإمبراطوريات والممالك والسلطنة) قبل مجيء الكولونيالية البريطانية ودَمْج جميعها مع بعضها لتشكيل ما يُعْرَف اليوم بنيجيريا. ومن هذه المجتمعات والممالك استمدَّ الحُكَّام التقليديون في نيجيريا (الملوك في الجنوب والشرق، والسلطان/الأمراء في الشمال) ألقابهم.

ولذا تركَّزت الإدارة المحلية بشكلٍ عامّ على يد الحاكم التقليدي (الملك /السلطان/ الأمير أو مناديبهم) لعدَّة قرون قبل ظهور الحكم البريطاني؛ حيث كان الحاكم التقليدي بمثابة مستودَع للوظائف الدينية والتشريعية والتنفيذية والقضائية في مجتمعه المحليّ، مع بعض الاستثناءات الوظيفية في مجتمعات شرق نيجيريا.

على أن ملحمة عزل "سانوسي لاميدو سانوسي" (محمد سانوسي الثاني) – أمير إمارة كانو الرابع عشر؛ تُعِيد إلى الأذهان تلك النقاشات الطويلة حول مكانة الحكّام التقليديين في دولة نيجيريا بعد الاستقلال، وكيف تغيَّر دورهم في إدارة الحكومة المحلية على مرّ السنين؛ من كونهم الرؤساء التنفيذيين لمواقعهم الجغرافية (مجتمعاتهم المحلية)، إلى تخفيض مناصبهم كمجرّد مستشارين وموظفين تحت نظام الحكم المحلي المعاصر (local government system)، الأمر الذي يخلق صدامًا ومشكلات بين الحُكَّام التقليديين والجهات الفاعلة في الحكومة المحليَّة المُنْتَخَبَة، ويُعَقِّد العلاقة بين هؤلاء الحكام التقليديين وحكام الولايات الحديثة (state governors) التي توجد تحتها هذه المجتمعات المحلية.

دور الحُكَّام التقليديّين في نيجيريا قبل الكولونيالية


كانت طبيعة الوظائف، ومدى أهمية المناصب التقليدية في الدولة الحديثة موضع نقاش ساخن بين فريقين من الباحثين في العلوم السياسية والفلسفة الإفريقية؛ فريق يؤيد بقاء المؤسسات الإفريقية التقليدية لأهميتها في الحفاظ على الثقافة والنسيج الاجتماعي المحليّ بإفريقيا ولدورها في تصفية استعمار العقل الإفريقي. وفريق يرى أن المؤسسات التقليدية تُكلّف أنظمة الحكومات الحديثة موارد باهظة، وتُشَكِّل عوائق أمام التنمية وعمليَّات التحديث في إفريقيا بالنظر إلى نمط تفكير هذه المؤسسات التقليدية وسلوكها.

ووفقًا لدراسة للبروفيسور Osa Osemwota والدكتور Daniel Adetoritse Tonwe، المؤرخين السياسيين في جامعة "بنين" النيجيرية؛ فقد اهتمّت الكولونيالية البريطانية بالمناصب التقليدية بنيجيريا حتى قبيل الاستقلال، وشهد الحكام التقليديون من عام 1960م حتى عام 1999م تراجعًا في الأدوار حسب الوظائف التي يُرَاد منهم القيام بها في الحكومات المحلية بمختلف الأقاليم الثلاثة –الشمال والغرب (جنوب غرب نيجيريا حاليًا)، والشرق (جنوب شرق نيجيريا حاليًا).

ففي حقبة ما قبل الكولونيالية، تمثلت طبيعة حكم الحكام التقليديين -من بين أمور أخرى- في صياغة سياسات مناسبة، وترتيب الأولويات، وتوليد الإيرادات لتلبية احتياجات مجتمعاتهم؛ فالأمير في الشمال مُشَارِك تنفيذيّ قَوِيّ في الإدارة المحلية دون قيودٍ كبيرة على سلطاته التنفيذية.

وفي الغرب تمركزت السلطة على أيدي "أوبا" (أو الملك) الذي شارك نفوذه مع كُتل أو مراكز سلطة أخرى؛ مثل: هيئة صانعي الملوك، ومجلس البلدة، والجمعيات السرية القوية التي كان دورها في تشكيل الإدارة المحلية بمثابة مراقبة سلطة الملك. وفي الشرق رغم أهميّة منصب الملك، فإن نظام الحكم لامركزيٌّ للغاية ومُجزّأٌ بحيث تُمَارَس السلطة على مستويات مختلفة، ممَّا يعني أنَّ منصب الحاكم التقليدي في الشرق تجسيدٌ فقط للإدارة المحلية.

الحكام التقليديون في حقبة الكولونيالية


ومع ظهور الكولونيالية؛ لجأ الإداريّون البريطانيون -الذين أدركوا الموقف الاستراتيجي والمؤثر الذي يشغله الحُكَّام التقليديون في البلاد- إلى طريقة أخرى لاستغلال المناصب التقليدية لتحقيق مصالحهم الكولونيالية؛ فوضعوا نظام "الحكم غير المباشر" لحكم السكان المحليين، والتحكم في مواردهم؛ عبر مؤسساتهم التقليدية مع إحكام الكولونياليين البريطانيين عملية توجيه الحكام التقليديين. ومن خلال هذه الطريقة أيضًا عزّزت بريطانيا دور هؤلاء الحُكَّام كرؤساء تنفيذيين لمحلياتهم، وللمناطق التي لم تصل إليها سلطتهم قبل حقبة الكولونيالية.

غير أن نظام "الحكم غير المباشر"، ونظام السلطة التقليدية أدخلا الحُكَّام التقليديين في مواجهة مع "القوميين" الذين شكوا من أن الحكام التقليديين يسيطرون بقوة على مجالسهم المحلية وأنهم يميلون إلى الاستبداد في أداء وظائفهم التي كانت في الأساس للحفاظ على القانون والنظام، إضافةً إلى أنهم موظفون لدى الإدارة الاستعمارية، لتنفيذ السياسات الضريبية البريطانية؛ فأدت هذه الشكاوى والمواجهات إلى ظهور الأحزاب السياسية في نيجيريا في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين؛ حيث القوميون سعوا إلى المشاركة والتمثيل في الشؤون الحكومية دون ترك هدفهم الأساسي المتمثّل في الضغط من أجل الحكم الذاتي.

وبالفعل نجح "القوميون" في محاولاتهم؛ إذ عدّلت بريطانيا استراتيجيتها إلى نظام جديد (حكومة محلية) كان الهدف منه -وفق تقرير مقدم للبرلمان البريطاني في يوليو 1949م-: تشجيع المصالح السياسية المحلية، وبناء حكومة محلية تتسم بـالكفاءة والديمقراطية؛ فألغت منطقة الشرق نظام السلطة التقليدية، واستبدلته بمرسوم الحكم المحلي لعام 1950م الذي نصّ على انتخاب المجالس، وعدم تجاوز الأعضاء غير المنتخبين 25%، واختيار رؤساء المجالس من بين أعضاء المجالس المنتخبين.

وصدر في المنطقة الغربية قانون الحكم المحلي لعام 1952م ليحلّ محل نظام السلطة التقليدية القديم. ونص القانون على أن تتألف المجالس المحلية مِن الأعضاء المنتخبين والتقليديين؛ بحيث لا تتجاوز العضوية التقليدية ربع مجموع عضوية المجالس، كما يمكن تعيين الزعماء المعترف بهم (مثل الحكام التقليديين) رئيسًا للمجالس، بشرط ألا يُعْطَوا أيّ دَوْر مُحَدَّد، ممَّا يعني أنهم فقط رؤساء شرفيون.

وفي المنطقة الشمالية؛ استُبْدِلَ قانون السلطة التقليدية القديم بقانون آخر لعام 1954م والذي نصَّ على عددٍ من الأُطُر التشغيلية -بما في ذلك "الرئيس في المجلس" (Chief-in-Council) و "الرئيس مع المجلس" (Chief–and-Council)، والسلطات التقليدية الموحدة؛ ففي ترتيب الرئيس في المجلس، يملك الأمير سلطة الاعتراض على قرارات المجلس؛ شريطة إبلاغ المُحافِظ (Governor) إذا فعل ذلك.

وفي ترتيب الرئيس مع المجلس، لا يمكن للأمير مخالفة قرار المجلس. وقد أدى تداخل ثقافة المنطقة الشمالية مع الثقافة الإسلامية وممارسات السلطة السياسية التقليدية إلى صعوبة تمييز أيّ اختلاف في سلطة الأمراء بين ترتيبَي الرئيس في المجلسين. وتتمثّل مهمة السلطات المحلية الموحدة في تلبية احتياجات المجتمعات التي لا تخضع مباشرة للإمارات.

الحكام التقليديون بعد الاستقلال


ورغم فقدان السلطات التقليدية دورها التنفيذي في نظام الحكومة المحلية، فقد تمكّن بعض الحكام التقليديين وخاصة في الشمال من المشاركة بشكل كبير في عملية صنع القرار والحكم؛ كلٌّ حسب تأثيره الفردي، وأهمية منصبه التقليديّ في أعين الفاعلين السياسيين. وفي المناطق الشرقية والغربية كان استيلاء الجيش على السلطة عبر الانقلابات العسكرية من عام 1960م إلى عام 1999م وجهود نشر الديمقراطية بعدها قد أثّرا بشكلٍ سلبيّ في مكانة الحكام التقليديين وأهميتهم في صنع القرار المحلي.

بل تعرَّض دستور عام 1979م لكثير من الانتقادات مِن قِبَل الحُكَّام التقليديين الذين قالوا: إنه لم يَذْكُر دورهم في الحكومة المحلية. واستجابة لطلبهم، حدّد دستور 1989م وظائف المجلس التقليدي على مستوى الحكومة المحلية. ويرى النُقّاد أيضًا أن دستور 1999م لم يُعزِّز دور الحكام التقليديين في شؤون الحكومة المحلية؛ لأنه لم يُحدّد وظائف السلطات التقليدية. وما زالت المحاولات جارية في برلمان نيجيريا لتحديد وظائف الحُكّام التقليديين وأدوارهم في الحكومات المحلية التي تقع بدورها تحت سلطة حكومة الولايات النيجيرية.

وعلى الوضع الراهن؛ كان الحُكام التقليديون تحت رحمة المسؤولين المنتخبين (رؤساء الحكومات المحلية وحُكام الولايات)؛ حيث يوجد أمامهم أمران: تأمين الاستمرار في المنصب التقليدي من خلال الإذعان لأوامر المسؤولين السياسيين المنتخبين، واللعب على أوتارهم لتفادي أيّ صدام معهم، أو التعرض للإطاحة والابتزاز في حالِ انتقاد هؤلاء المسؤولين والخروج ضدهم ولو لقضية عادلة.

ويكفي كمثال على ما سبق: ملحمةُ عزل الحاج "سانوسي لاميدو سانوسي" -أمير إمارة "كانو" التاريخية وأحد الزعماء التقليديين ذوي النفوذ في شمال نيجيريا– من عرش الإمارة في 9 من مارس 2020م ونفيّه دون إرادته إلى قرية في ولاية "ناساراوا", وذلك بأمر من "عبد الله غندوجي" - حاكم ولاية كانو بشمال نيجيريا.

"سانوسي لاميدو" وعزله من البنك المركزي النيجيري


ولد "سانوسي" في 31 يوليو 1961م، وشغل -قبل تعيينه أميرًا لـ "كانو"- منصب محافظ البنك المركزي النيجيري من 2009م إلى 2014م في عهد الرئيس السابق "غودلاك جوناثان". لكنَّ "جوناثان" عزله من المنصب بعد أن اتَّهم "سانوسي" شركة البترول الوطنية النيجيرية (Nigerian National Petroleum Corporation) التي تديرها الدولة بإخفاء حوالي 20 مليار دولار في خزائن الدولة.

وأشار "سانوسي" أيضًا في خطابٍ مسرَّب إلى الرئيس "جوناثان" إلى أن شركة النفط الوطنية لم تُحَوِّل أكثر من 49.8 مليار دولار من عائدات مبيعات النفط الخام، وأدَّى نفي شركة النفط الوطنية للتهمة إلى تشكيل لجنة تحقيق لمناقشة الأمر.

ومع ذلك، لم يكن "سانوسي" راضيًا عن عملية التحقيق، فرفع القضية إلى مجلس الشيوخ، وأُجْرِيَت مراجعة شاملة للمسألة؛ شككت النتيجة في موقف شركة النفط الوطنية، وأظهرت ثقوبًا في الحجج التي قدّمتها.
"أُحبّ الجدل"؛

هكذا قال "سانوسي" خلال مؤتمر في عام 2014، بعد ساعات من اتهامه شركة النفط الوطنية؛ وهو ما يعني أنه مستعدّ لتحمّل تبعات مسألة الفساد التي كشفها.

وبالفعل, صادر مسؤولو المخابرات جواز سفر "سانوسي"، وأجبره الرئيس "جوناثان" على مغادرة منصب محافظ البنك المركزي.

"سانوسي لاميدو" أميرًا لإمارة "كانو"


أثار طرد "سانوسي" من البنك المركزي استياء النيجيريين الذين رأوا أن حكومة "جوناثان" قد عاقبته لموقفه الصارم من كشف فساد الرجال الأقوياء في الحكومة وفي شركة النفط الوطنية. ولذلك أيّد بعض السياسيين والزعماء في الشمال مقترح تعيينه أميرًا لإمارة "كانو" بعد وفاة عمّه الأمير "أدو باييرو".

غير أن هناك مَن يعتقد أن لرغبة "سانوسي" في عرش إمارة "كانو" دوافع سياسية؛ حيث ذهبوا إلى أنه قَبِل تولّي عرش الإمارة في محاولة لتجنُّب اتهامات الاحتيال من فترة عمله في البنك المركزي. وبالنسبة لآخرين، لا يستحقّ "سانوسي" منصب أمير "كانو"؛ لأنّ الوريث الشرعي للعرش هو ابن عمه، وهو ما أدَّى إلى وجود احتجاجات ضدّه.

على أن "سانوسي" نفسه ليس غريبًا عن الإمارة، وليس أول مَن يُخلَع منها؛ إذ خُلع في السابق بجنوب نيجيريا عددا من الملوك, وخُلع أيضا جدّ "سانوسي" - الأمير السير "محمد سانوسي" الأول - من منصب أمير "كانو" عام 1963م ونُفِي إلى أزَارَيْ (في ولاية باوتشي الحالية) نتيجة الصراع على السلطة بينه وبين الزعيم الحاج "أحمدو بلّو" (رئيس وزراء إقليم الشمال من 1954م إلى 1966م).

ومع ذلك، تُوِّج "سانوسي" أميرا للإمارة في 9 يونيو 2014، وأصبح تلقائيًا قائدًا للطائفة التيجانية بموجب منصبه الذي يُعدّ ثاني أهم المناصب التقليدية في شمال نيجيريا بعد سلطان "سوكوتو" - زعيم الطريقة القادرية التي تعد أكبر الطوائف الصوفية في نيجيريا.

"سانوسي" وتفكيره "التقدمي" في مجتمع متحفّظ


رأى الكثيرون في شمال نيجيريا أن "سانوسي" خلال الفترة التي قضاها كأمير "كانو" (2014 – 9 مارس 2020) منشقٌّ عن المعايير الشمالية والأنماط المعتادة. ولعلّ ما أثّر في أسلوب تفكيره جمعُه بين التعاليم الحديثة (شهادة جامعية في الاقتصاد عام 1981م  وماجستير في الاقتصاد عام 1983م) وبين التعاليم الإسلامية (شهادة جامعية في الشريعة والدراسات الإسلامية عام 1997م من السودان).

فمن الطبيعي إذًا أن تلقى الأمير انتقادات كثيرة من المتحفّظين في الشمال، خصوصا لآرائه المثيرة للجدل حول بعض العادات والقضايا الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على المنطقة الشمالية؛ فقد دعا حكومات الولايات الشمالية إلى ضرورة إنهاء زواج القاصرات، وتكثيف الجهود في بناء المدارس بدلاً من المساجد - لوجود الملايين من الأطفال في شوارع المدن الشمالية وهم لا يرتادون المدارس، وطالب تطوير البنية التحتية والتخطيط السكاني الذي يشمل تنظيم تعدد الزوجات لأنه يزيد الفقر في المنطقة.

وإذا كان آخر دعوات "سانوسي" في شهر فبراير 2020 تضم إيجاد حلول لقضية "المَاجِرِي" (Almajiri), فقد حثّ في نوفمبر 2014م أتباعه على محاربة جماعة "بوكو حرام"، ونتيجة لذلك قصفت الجماعة المسجد الجامع الكبير في "كانو" مع مقتل ما لا يقل عن 150 شخص, كما اتهمه "أبو بكر شيكاو" – "زعيم بوكو حرام" - بالانحراف عن الإسلام وهدّد حياته.

وقد رد "سانوسي" على "بوكو حرام" بأن حياته في أمن وحفظ من الله، وشبّه تصريحات "شيكاو" – التي كفّر فيها الصوفيين – بتصريحات "محمد مروة" (قائد ومؤسس حركة "ميتاتسين" التي ظهرت في سبعينات القرن الماضي في شمال نيجيريا).

"سانوسي" وعلاقته مع الحكومة


إن موقف أنصار "سانوسي" أنه عُزل من عرش إمارة "كانو" بسبب معارضته لإعادة انتخاب "عبدالله غاندوجي" - حاكم ولاية "كانو" - في انتخابات 2019م الأخيرة, بَيْدَ أن توتر علاقاتهما بدأ في عام 2017م.

من جانب آخر, خرج "سانوسي" عن العادة المألوفة من الملوك والأمراء النيجيريين بالتزام السكوت أثناء وجودهم على عرشهم؛ فقد تحدّث "سانوسي" عَلَنًا عن سياسات حكومة ولاية "كانو" والحكومة الفدرالية النيجيرية. وانتقد حكومة ولايته لعدم فهم الأولويات، الأمر الذي أثار غضب حكومة الولاية فأطلقت إجراءَ التحقيق في الممارسات الفاسدة داخل الإمارة, كما أسّست الحكومة أربع إمارات جديدة في "كانو" لتخفيض سلطات "سانوسي".

وقد برّرت حكومة "كانو" قرار عزل الأمير "سانوسي" من الإمارة بأنه أظهر "تمردًا" للسلطات في الولاية لأنه لا يحترم التعليمات القانونية, وأن إزاحته تتماشى مع توصية لجنة الشكاوى العامة ومكافحة الفساد في الولاية.

ووفقا لحكومة ولاية "كانو" التي يرأسها "عبدالله غندوجي"؛ أصبح إبعاد "سانوسي" من العرش لزامًا لاستعادة وحماية "قدسية" إمارة "كانو" وثقافتها وتقاليدها ودينها ومكانتها, وهي الإمارة التي تأسست منذ أكثر من ألف عام.

أما في رأي الأكاديميين والمفكرين, فإن عزل "سانوسي" من إمارة "كانو" قد يكون مكسبا للساحة السياسية والفكرية النيجيرية نظرا لخبراته في الاقتصاد والسياسة, ولجرأته في إبداء مواقفه وتشخيص الأحداث الذي ينبئ عن شغفه في القضايا المتعلقة بنظام الحكم في نيجيريا.

وبصفة شخصية؛ يذكّر قرار تعيين "سانوسي" أميرا لـ "كانو" ثم عزله بالمثل اليوروبوي القائل: "Ilésanmí dùn joyè lọ", أي: أن تعيش حياتك في منزلك البسيط بسلامٍ وأمنٍ وحريّة, خيرٌ لك من الحصول على ألقاب مُرهقة ومناصب مُزعجة.

ــــــــــــــــ

ملاحظة: نشرتُ المقال أيضا في دورية قراءات إفريقية.
- للمزيد:

- Adagbo Onoja. (2014). Sanusi Lamido Sanusi, the north and the stalemate in Nigeria. Available at https://www.thecable.ng/sanusi-lamido-sanusi-the-north-and-the-stalemate-in-nigeria
- Eric Teniola.(2014). How Sanusi’s Grandfather was Dethroned by Sardauna in 1963. Available at: https://prnigeria.com/2020/03/09/sanusis-grandfather-dethroned/
- Tofe Ayeni. (2020). Nigeria’s Lamido Sanusi is dethroned for a second time. Available at https://www.theafricareport.com/24376/nigerias-lamido-sanusi-is-dethroned-for-a-second-time/
- Tonwe, D. A., & Osemwota, O. (2013). Traditional rulers and local government in Nigeria: a pathway to resolving the challenge. Commonwealth Journal of Local Governance, 128-140.

الخميس، 5 مارس 2020

التشاؤم من أفريقيا؟ شباب القارة متفائلون بالمستقبل ومعتزّون بانتمائهم الأفريقي

مارس 05, 2020
التشاؤم من أفريقيا؟ شباب القارة متفائلون بالمستقبل ومعتزّون بانتمائهم
الأفريقي
Students use laptops at the Kokrobitey Institute in Ghana. Technology is a key element in rising optimism among Africa’s youth according to a new surve. Photograph: Alamy

يجد كُتَّابٌ وباحثون أفارقة صعوبةً أحيانًا في إقناع الذين قنطوا من إفريقيا بأنَّ هناك أحداثًا إيجابيَّة جارية داخل القارة؛ وذلك بسبب التأثر بما قرأوه عن الأحداث و"المشكلات المتفاقمة" بإفريقيا، والتي هَوَّلها الإعلام الرئيسي؛ الأمر الذي جعلهم يُطلقون على المتفائلين من الشباب والباحثين الأفارقة لقب "تُجَّار الأوهام".

على أنَّ بعض المؤسسات الأوروبية في الآونة الأخيرة بدأت تتبنّى مواقف إيجابيَّة من مستقبل القارة؛ ولو كانت هذه المواقف لمصلحتها الخاصة في بعض الأحيان؛ ففي عام 2011م خفّفتْ مجلة "The Economist" -التي لها ثقلها في تشكيل رأي الأفراد والمؤسسات بأوروبا- من حدَّة نبرتها السلبية تجاه القارة، ونشرتْ في ديسمبر 2011م "اقتصاديات إفريقيا المفعمة بالأمل: الشمس مشرقة"، وملف تقرير خاص بعنوان "قارة متفائلة" في مارس 2013م، وذلك بعد أن أعلنتْ في مقال شهيرٍ في 13 مايو 2000م أن إفريقيا "قارة ميؤوس منها".

وفي المقابل، لا يزال باحثون من مؤسسات مهتمَّة بقضايا إفريقيا في المشرق والمغرب العربيَّيْنِ يسيرون على ذلك النهج الأوروبي القديم؛ كالتشكيك في إنجازات بعض الدول الإفريقية وإمكانات شعوبها، وتحوير الأحداث السياسية بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى ما يناسب مصالحهم، وتحليل قضايا إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى دون الاهتمام بوجهات نظر أصحابها، وتناول الثقافات والعادات الإفريقية بغرض السخرية دون الوقوف وراء رمزياتها وحقائقها وتفسيرات أصحابها لها.

ومع ذلك؛ فإن التفاؤل الأوروبي بإفريقيا أيضًا يختلف تمامًا عن تفاؤل الأفارقة بقارتهم؛ لأنّ الأول -كما أشار إليه "Kjell Havnevik" في دراسته - يعتمد على طريقة أوروبا والغرب في تفسير التنمية وإسقاط المعايير الأوروبية في فهم المناطق والقارات الأخرى رغم الاختلاف في التاريخ والثقافات والسياقات المجتمعية، ممَّا ساهم في استمرار النظرة النمطية الأوروبية.

أما تفاؤل الأفارقة -وخاصة الشباب- بمستقبل القارة؛ فقد أكّدته دراسة جديدة من مؤسسة "إيفور إيتشيكويتز" (Ivor Ichikowitz)؛ وهو رجل الأعمال وأحد رُوَّاد الصناعة في جنوب إفريقيا، والذي برَّر سبب دعوته إلى المسح الإحصائي أنه في جولاته في جميع أنحاء العالم غالبًا ما يُواجه مجموعة من الصُّور النمطية السلبية لإفريقيا، والتي تخالف ما يشاهده عند وجوده في البلدان الإفريقية من حيث شعور الأفارقة بالإيجابية، والعمل نحو تحقيق الأفضل.
لقد احتجنا إلى دعم هذا (الشعور بالإيجابية وتفاؤل الأفارقة) بالأدلة، ومن هنا جاءت فكرة المسح الإحصائي؛

هكذا قال "إيتشيكويتز".

فلم تدحض نتائج المسح الإحصائي فقط ما يردده المتشائمون بشأن مستقبل إفريقيا وحاملو الصور النمطية البالية تجاهها، بل أظهرت أيضًا أن شباب القارة يتطلعون إلى عصر من النمو الاقتصادي السريع والوفاء بالإمكانات وتحقيق الآمال الشخصية.

الشباب والتفاؤل بأفريقيا

وأصدرت مؤسسة "إيتشيكويتز" تقرير دراستها بعنوان "الشباب الإفريقي عام 2020"؛ حيث تم إجراء مقابلات خاصة مع 4200 شاب تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا يعيشون في 14 دولة من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي: جمهورية الكونغو (برازافيل)، إثيوبيا، الغابون، غانا، كينيا، ملاوي، مالي، نيجيريا، رواندا، السنغال، جنوب إفريقيا، توغو، زامبيا وزيمبابوي.

وأشار التقرير الذي أشرف عليه "إيفور إيتشيكويتز"، رئيس المؤسسة إلى أن غالبية الشباب الذين شاركوا في المقابلات الخاصة شعروا بشكل عامّ بأن القارة تسير في الاتجاه الصحيح وأن القرن الحالي بالفعل لإفريقيا، ما يعني أن هناك اتجاهًا نحو "التفاؤل الإفريقي" بين الشباب في القارة، بسبب شعور الشباب بالمسؤولية الفردية وروح المبادرة المنتشرة في جميع أنحاء القارة والثقة في الهوية الإفريقية.

وتتناقض نتائج المسح بشكل صارخ مع القصص المعتادة حول المأساة واليأس عن إفريقيا؛ إذ يرى 82٪ من الشباب المستجيبين أن مستوى معيشتهم سيتحسن في العامين المقبلين، بينما يرى 81٪ منهم أن التكنولوجيا ستكون محرّكًا رئيسيًّا لتغيير حالاتهم الاجتماعية وتعزيز ثرائهم، وتعضد هذا حقيقة أن جيل الشباب الحالي من الأفارقة تبنَّوا التقنيات والتكنولوجيا الحديثة للتغلُّب على تحديات كثيرة في مجال التعليم والرعاية الصحية والإدماج المالي.

ويمكن فَهْم انطباعات غالبية الأفارقة تجاه الأنظمة السياسية داخل القارة بالنظر إلى نتائج المسح أيضا؛ فـ48٪ من المشاركين فضَّلُوا حكومات مستقرة على "الديمقراطية"، وبالتالي لن تكون التكنولوجيا وحدها عصا سحرية لحل جميع تحديات القارة؛ حيث إن الواقع يتطلب من الحكومات الوطنية تحسين الموارد العامة، وإنشاء مؤسسات سياسية مستقرَّة واقتصادية قوية تعزّز الابتكار وريادة الأعمال؛ الأمر الذي سيؤثر بقصدٍ أو دون قصد في تحقيق إدارة أفضل.

التفاؤل بمستقبل إفريقيا في مواجهة التشاؤم

على الرغم من الفرق بين التفاؤل بإفريقيا من وجهة نظر أوروبية وتفاؤل شباب إفريقيا بقارتهم، كانت نتائج المسح بمثابة تنبيه لكل من المتشككين في إمكانيات القارة ونجاحاتها، والمتشائمين الذين لا يرون ضرورة مراجعة مواقفهم القديمة في تناول أحداث القارة وقضايا شعوبها.

ومن جانب آخر، أظهر المسح أيضًا أنَّ شباب إفريقيا ليسوا بعيدين عن واقع التحديات التي قد تُعيق تحقيق أحلامهم؛ كالفساد ونقص الوظائف الجديدة، ومحدودية رأس المال لبدء مشاريعهم وانتشار الأخبار المزيفة وأنشطة الحركات المسلحة وتدهور نُظُم التعليم.
أمامنا الكثير من العمل الذي يتعين علينا القيام به إذا كُنَّا سنخلق فرصة حقيقية لجعل حلم القرن الإفريقي حقيقةً واقعةً لشعبنا.. هذا المسح يُظْهر أن شباب القارة يمثّلون أفضل فرصة، وهذا يدعو للاحتفال والتشجيع؛

هكذا قال "كغاليما موتلانثي" (Kgalema Motlanthe)، الرئيس السابق لجنوب إفريقيا، والضيف المساهم في التقرير.

ومن بين النقاط التي أثارها مسح "الشباب الإفريقي عام 2020م"، أنّ:

- 65٪ من المستجيبين يرون أن القرن الحادي والعشرين سيكون "القرن الإفريقي"، و72٪ منهم واثقون من تقدُّم مستقبلهم المالي، و63٪ غير راضين عن بلادهم، و49٪ غير راضين عن الوضع الحالي لقارة إفريقيا.

- نصف النمو السكاني في العالم خلال الثلاثين سنة القادمة سيحدث في إفريقيا، ويبدو أن الشباب يدركون جسامة المهام، فلجأوا إلى ريادة الأعمال، وخلق فرص العمل لأنفسهم دون انتظار حكوماتهم. إذ أشار التقرير إلى أن 76٪ من المستجبين يريدون بدء عمل تجاريّ في السنوات الخمس المقبلة، ويملك أكثر من 60٪ فكرة لمشروع تجاريّ أو اجتماعيّ، ويشعر 75٪ أنهم غيّروا مجتمعاتهم بشكلٍ إيجابيّ من خلال أعمالهم وأنشطتهم.

- شباب القارة مرتبطون بالتكنولوجيا والإعلام ومهتمُّون بالشؤون التجارية الإلكترونية: يرى 79٪ أن الوصول إلى الواي-فاي يجب أن يكون حقًّا أساسيًّا من حقوق الإنسان، ويرى 81٪ أن التكنولوجيا ستُغيّر ثروات إفريقيا ومعايش شعوبها، ويستخدم 59٪ هاتفهم الذكيّ لأكثر من ثلاث ساعات يوميًّا، بينما يستخدم 89٪ وسائل التواصل الاجتماعي.

- شباب القارة لا يهتمُّون بتغيُّر المناخ بقدر اهتمامهم للتحديات البيئية الأكثر إلحاحًا، وتحديدًا ندرة المياه (86٪ من المستجيبين)، الحدّ من النفايات البلاستيكية (79٪)، والصيد غير القانوني للحيوانات البرية (69٪).
- الدولة الوطنية لا تزال مصدرًا قويًّا للهوية الجماعية الإفريقية، لكنَّ 76٪ اتفقوا (أي: أغلبية ساحقة) على وجود هوية إفريقية مشتركة ناشئةٍ عن الثقافة المشتركة، و63٪ يطالبون بالوحدة لدفع عجلة إفريقيا إلى الأمام، ويرى 72٪ أن بإمكان الاتحاد الإفريقي توحيد القارة.

- معظم الشباب المشاركين في المقابلة يبحثون عن وظائف حكومية لتحقيق استقرارهم وأمنهم، لكنهم أكثر حرصًا على بدء الأعمال التجارية وفضّلوها على الوظائف الحكومية.

- الدول الأجنبية التي تؤثّر بشكل كبير على إفريقيا هي: الولايات المتحدة الأمريكية (83٪ يرون تأثيرها إيجابيًّا)؛ المملكة المتحدة (82٪ يرون تأثيرها إيجابيًّا)، والصين (79٪ يرون تأثيرها إيجابيًّا)، والاتحاد الأوروبي (73٪ يرون تأثيره إيجابيًّا)، لكنّ 57٪ فقط هم من اعتبروا التأثير الفرنسي إيجابيًّا.

- شباب إفريقيا يرون الأمراض المُعْدِيَة والإرهاب أكبر تهديدين للقارة خلال السنوات الخمس الماضية، وأن المستقبل ستحدده فُرص العمل، والابتكار وريادة الأعمال، والقضاء على الفساد.


وفي رأي "إيفور إيتشيكويتز":
لا يعتمد التفاؤل المزدهر بين شباب إفريقيا على الأمل (فقط)، ولكن على قدرتهم على اغتنام الفرص التي يوفرها العالم الحديث. وتؤكد النتائج على أن ريادة الأعمال هي أكبر بُغْيَة لدى الشباب الأفارقة الذين يتبنون التقنيات الرقمية لتشكيل مستقبلهم. وإذا كان هناك أيّ شكّ في قصة "صعود إفريقيا"، فإن هذه الدراسة توفِّر لنا دليلاً قويًّا على أن وقت إفريقيا موجود هنا، وأن القارة ستستمر في الصعود بواسطة جيل جديد من القادة المبتكرين والمسؤولين الواثقين في أنفسهم.

ـــــــــــــــــ

**ملاحظة: نشرتُ هذا المقال أيضا في دورية قراءات إفريقية (بتصرف).

للمزيد عن الموضوع:


- Havnevik، K. (2015). The current Afro-optimism–A realistic image of Africa?. FLEKS-Scandinavian Journal of Intercultural Theory and Practice، 2(2).


- African Youth Survey 2020. Ichikowitz Foundation، available at https://ichikowitzfoundation.com/ays2020-book/


- Anver Versi. (2020). African youth strongly optimistic about future. The NewAfrican Magazine، available at: https://newafricanmagazine.com/22379/

الثلاثاء، 14 يناير 2020

ما مكاسب برنامج LEAP في ليبيريا بعد ثلاث سنوات؟

يناير 14, 2020
ما مكاسب برنامج LEAP في ليبيريا بعد ثلاث سنوات؟


في عام 2016م، وجد المهتمُّون بالتعليم وخبراء الإدارة والسياسة التعليمية أنفسهم أمام أكبر خطة تعليمية جرأة ومثيرة للجدل في تاريخ إفريقيا الحديث([1])؛ فقد واجه "جورج فيرنر" - وزير التعليم السابق في ليبيريا- مهمة صعبة تمثّلت في إصلاح النظام المدرسي في البلاد؛ إذ منعت فترات الحرب الأهلية (1989 – 2003م)، وتفشّي فيروس الإيبولا عام 2014م العديد من الأطفال من الذهاب إلى المدرسة، ولم يتعلم ذهبوا إلى المدرسة إلا قليلاً، بينما استطاعت القراءةَ حوالي 25٪ فقط من النساء الليبيريات اللائي أكملن المرحلة الابتدائية([2])، وجُلّ المدرّسين المُدْرَجِين في سجلّ الرواتب "أشباح" غير موجودين على أرض الواقع، وهم يقبضون الرواتب بانتظام.

كانت ميزانية وزارة التعليم الليبرية مجرد 50 دولارًا لكل تلميذ سنويًّا؛ ما يعني أنّهم بحاجة إلى إدارة مدرسية فعَّالة وذات كفاءة لتحقيق نتائج إيجابية مؤثرة وبتكلفة أقل. ولذلك لجأ الوزير"فيرنر" إلى الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة المدارس العامة؛ فَسَلّم 93 مدرسة ابتدائية تحتوي على 8.6٪ من تلاميذ المدارس الحكومية إلى ثماني مؤسسات خاصة -في برنامج طَمُوح يسمى "شراكة النهوض بالتعليم الليبيري" (Liberian Education Advancement Partnership = LEAP). وفي وقتٍ لاحق وسّعت الحكومة برنامج الشراكة ليشمل 101 مدرسة إضافية.

وقد تمحورت مواقف خبراء التعليم تجاه البرنامج في عام 2016م حول حقيقة أن الشراكة بين القطاع العام والخاص قد ساهمت في توفير التعليم الابتدائي في دولٍ كثيرة، ولكنَّ دور مثل هذه الشراكات في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لا يزال محلّ نقاش.

وكان السؤال الرئيسي: هل بإمكان القطاع الخاص تحسين نتائج التعلّم عندما تفشل أنظمة المدارس العامة؟

ويرى مؤيدو مثل هذه الشراكة أن المشغّلين والمؤسسات من القطاع الخاص قد يقدرون على إدارة المدارس بشكل أكثر فعالية؛ ممَّا يعطي الطلاب نتائج أفضل بتكلفة أقل؛ نظرًا لمحدودية موارد الحكومات. في حين يرى المعارضون أنها قد تؤدي إلى انفلات المشغّلين من المراقبة الحقيقية، وتجاهل التحديات أو الحد من خيارات الأطفال في المناطق النائية، والتركيز على درجات الاختبار على حساب الجوانب الأخرى؛ كسهولة الوصول إلى التعليم وسلامة الطفل.

وللتأكد من فاعلية هذه التجربة ودراسة تأثيراتها، رصد باحثون -بالتعاون مع مؤسسة "ابتكارات لمكافحة الفقر" (Innovations for Poverty Action = IPA)، ووزارة التعليم الليبيرية ومجموعة من ثمانية مشغلين من القطاع الخاص– هذا البرنامج؛ وذلك لتقييمه في تجربة عشوائية محكومة (RCT)، وتتبّعوا نتائج الاختبارات في مدارس المشغلين (من القطاع الخاص) والمدارس الحكومية القريبة.

وقد كشفت نتائج هذه الدراسة بعد أكثر من ثلاث سنوات من إطلاق البرنامج عن الواقع المعقَّد لعملية إصلاح التعليم في ليبيريا، وحقيقة الاستعانة بمصادر وشركات من القطاع الخاص في التعليم بالدول منخفضة الدخل.
نتائج الدراسة:

نشر مركز التنمية العالمية (Center for Global Development) تقريره ([3]) عن نتائج دراسته لبرنامج "شراكة النهوض بالتعليم الليبيري" (LEAP)، وتناول التقرير مكاسب التعلّم، ودرجة الوصول إلى التعليم، وسلامة الطلاب، واستدامة التكلفة خلال فترة الثلاث سنوات الماضية.

وبحسب التقرير؛ فقد رفعت المدارس التي شاركت في الدراسة درجات الاختبار بمقدار 0.21 انحراف معياري في مادة الرياضيات، و0.16 انحراف معياري في اللغة الإنجليزية أثناء الثلاث سنوات الماضية. وارتفعت درجات المجموعة التي بدأت من الصف الأول إلى أربع كلمات في القراءة؛ من 11 إلى 15 كلمة في الدقيقة.

وأشار التقرير إلى أن البرنامج قلّل من العقوبة الجسدية بنسبة 4.6 نقطة مئوية، من قاعدة بنسبة 51٪، لكنه لم يُحَسِّن مُعدّل التسرّب أو حالات الاعتداء الجنسي؛ فالنتائج تختلف باختلاف المشغّل؛ حيث أنتج بعض المشغلين نتائج إيجابية بشكل موحّد، في حين قدّم الآخرون تباينات بين مكاسب التعلّم ونتائج أخرى.

وقال جوستين ساندفور -الذي شارك في إجراء الدراسة-: "إن النتائج أظهرت أن بعض المشغّلين يتمكّنون من تحقيق مكاسب تعليمية فعَّالة من حيث التكلفة، وبعضهم يحقّقون مكاسب التعليم من خلال طرد الطلاب "غير المرغوب فيهم"، وفصلهم عن المدرسة لتقليل أحجام الفصول الدراسية، والبعض الآخر لا يقدّم الكثير من المكاسب إطلاقًا".

وبعد عام فقط، استقرّت مكاسب التعلّم دون الصعود.


عواقب غير مقصودة ودروس مستفادة:

أشارت منظمة "ابتكارات لمكافحة الفقر" ([4]) إلى أربعة مجالات مهمة عند النظر في نتائج الدراسة:

1-الوصول إلى المدرسة/الحصول على التعليم الابتدائي: كشفت النتائج أن الاستعانة بمصادر خارجية أدّت إلى زيادة الالتحاق بالمدارس التي يديرها المشغلون من القطاع الخاص، ولكنَّ آثارها سلبية على التحصيل العلمي للطلاب، ومستوى التحاقهم بالدراسة في العام الأول؛ بسبب عمليات الطرد الجماعي التي قام بها أحد المشغلين -وهي أكاديمية بريدج الدولية (Bridge International Academies). كما أن هناك آثارًا سلبية على احتمال بقاء الأطفال في المدرسة، أو المواصلة بالانتقال إلى المدرسة الثانوية.

2-التعلّم: حسّن هذا البرنامج بعد سنة واحدة نتائج التعلّم بحوالي 0.18 انحراف معياري في كل من اللغة الإنجليزية والرياضيات. وظلت الآثار الإيجابية بعد ثلاث سنوات ذات دلالة إحصائية، ولكنها لم تتغير بشكلٍ كبيرٍ منذ السنة الأولى. وتفاوتت المكاسب بشكل متواضع من حيث القيمة المطلقة، وأنتج ثلاثة من بين ثمانية مشغلين صفرًا في التأثير، في حين أنتجت الخمسة المتبقية نتائج أكبر إلى حدّ ما ومتشابهة، والتي أدت إلى التأثير الإيجابي العام.

3-سلامة الطفل: انخفضت عقوبة المشغلين والمؤسسات من القطاع الخاص -بشكل عام- دون القضاء عليها. وانخفضت نسبة الطلاب الذين يُبَلِّغُون عن تعرُّضهم للضرب مِن قِبَل معلّميهم إلى 4.6 نقطة مئوية من مستوى 51 بالمائة في مجموعة المقارنة.

غير أنَّ مستوى الاعتداء الجنسي لم يتراجع بالرغم من تدفق الموارد الجديدة والرقابة الخارجية في مدارس الشراكة. وقد أظهرت نتائج المسح الذي أُجري عام 2019م أن 3.6٪ من الطلاب أبلغوا عن علاقة جنسية مع أحد معلميهم، وأبلغ 7.5٪ عن وجود شكل من أشكال الاتصال الجنسي مع المعلم. وإذ كانت البيانات التي تستهدف هذا المجال غير كافية والقوة الإحصائية محدودة، إلا أنَّ بعض المشغلين قلَّلُوا بشكلٍ فعّالٍ من الإساءات الجنسية المبلَّغ عنها إلى الصفر.

4-الاستدامة (التكلفة): كانت التكاليف مرتفعة في البداية، ولكنها انخفضت إلى حد كبير أثناء سنوات إجراء الدراسة؛ فقد أنفقت الحكومة الليبيرية عند إطلاق البرنامج حوالي 50 دولارًا أمريكيًّا لكل تلميذ في المدارس الابتدائية العامَّة، على أمل أن يُنفق المشغلِّون من القطاع الخاص (وممولون خليجيون) 50 دولارًا إضافيًّا لكل تلميذ. لكنَّ إنفاق المشغلين في السنة الأولى لكل تلميذ كان حوالي 300 دولار في المتوسط. وبحلول العام الثالث كان متوسط التكلفة الإجمالية 119 دولارًا (أكثر من ميزانية الحكومة - 50 دولارًا لكل تلميذ).

ومن الملاحَظ أنَّ نتائج الدراسة أوضحت بعض الأمور الغامضة، ووحّدت آراء بعض خبراء التعليم الذين انقسموا حول الشراكة في عام 2016م. وأصبح العديد من صُنَّاع السياسة التعليمية اليوم يذهبون إلى أن مكاسب البرنامج بعد ثلاث سنوات كانت جيِّدة؛ خاصةً من حيث الإدارة في مدارس البرنامج، ولكنها ليست عظيمة وكبيرة؛ كما كان يأمل البعض عند إطلاق البرنامج([5]).

وبالنسبة للنظام الليبيري بشكلٍ عامّ وقطاع التعليم في البلاد بشكل خاص؛ فإن آثار هذا البرنامج متباينة؛ فالبرنامج -وفقًا لتقرير الدراسة- "وفّر موارد إضافية في العديد من المدارس التي تضمّ أفضل الموظفين والبنية التحتية في البلاد". وإذا كانت زيادة الإنفاق على المدارس خطوة مثالية؛ إلا أنها ليست واقعية بالنظر إلى مكاسب هذا البرنامج.

_____

[1] - حكيم نجم الدين. (2016م). واقع التعليم في ليبيريا: عندما تتخلى الحكومة عن مسئوليتها. قراءات إفريقية، متوفرة هنا https://bit.ly/2N26jTd

[2] - Liberia Institute of Statistics and Geo-Information Services. (2014). Liberia demographic and health survey 2013. Liberia Institute of Statistics and Geo-Information Services.

[3] - Mauricio Romero & Justin Sandefur (2019). Beyond Short-term Learning Gains: The Impact of Outsourcing Schools in Liberia after Three Years. Center for Global Development, working paper, available at https://www.cgdev.org/publication/beyond-short-term-learning-gains-impact-outsourcing-schools-liberia-after-three-years

[4] - Innovation for Poverty (2019). The Impact of Outsourcing School Management in Liberia. Available at https://www.poverty-action.org/study/impact-outsourcing-school-management-liberia

[5] Mary Mulbah & Samuel Y. Johnson (2019). Public Private Partnerships In Liberia Have Failed! The Education Minister Must Act Now To Save The Liberian Education System. Unite for Quality Education, available at https://www.unite4education.org/global-response/public-private-partnerships-in-liberia-have-failed-the-education-minister-must-act-now-to-save-the-liberian-education-system/

الاثنين، 16 ديسمبر 2019

القِطَع الأثرية الأفريقية في متاحف أوروبا وعقبات في طريق استعادتها

ديسمبر 16, 2019
القِطَع الأثرية الأفريقية في متاحف أوروبا وعقبات في طريق استعادتها
Big royal statues from the Kingdom of Dahomey, in present-day Benin, are pictured in 2018 at the Quai Branly Museum in Paris. Gerard Julien/AFP/Getty Images

أشار منتدى لليونسكو عام 2007م إلى أنه يوجد خارج قارة إفريقيا ما بين 90٪ إلى 95٪ من القطع الأثرية الثقافية المملوكة لبلدان إفريقيا جنوب الصحراء.

ويعضّد هذه الأرقام تقريرٌ أعدَّه الاقتصادي السنغالي "فيلوين سار" والمؤرخ الفرنسي "بينديكت سافوي" الصادر من الحكومة الفرنسية في عام 2018م والذي دعا إلى ضرورة إعادة الأصول الإفريقية المنهوبة من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية والبعثات الإثنوغرافية والممتلكات التي تمّ الحصول عليها في ظل ظروف مشكوك فيها، وتوجد في متاحف وأسواق مختلفة خارج القارة.

وقد ركّز النقاش في السنوات الأخيرة على الفنّ الإفريقي بالرغم من أن دعوات الإعادة تشمل عناصر تراثية مختلفة، بما فيها الفن والمحفوظات والأشياء الاحتفالية والبقايا البشرية، وعينات التاريخ الطبيعي والتراث الثقافي غير المادي؛ مثل التسجيلات الصوتية والصور الفوتوغرافية.

وقد وُصِفَتْ بعض هذه العناصر الفنية بأنها من خيرة ما أنتجتها إفريقيا على مرّ القرون، خصوصًا وأن قدرة أيّ متحف وطني بإفريقيا جنوب الصحراء لا تفوق -في أكبر إمكانياتها- 3000 قطعة أثرية فقط، ومعظم هذه المتاحف ليس لها أهمية تُذْكَر مقارنةً بالمتاحف الأوروبية.

ومن هنا جاءت التساؤلات التي يثيرها مسؤولون في أوروبا الذين قالوا -بعد سلسلة الانتقادات والضغوطات-: إن النقطة الأهمّ بالنسبة لهم هي: نحن ندعم فكرة إعادة القِطَع الأثرية إلى أوطانها، ولكننا قَلِقُونَ من أن المتاحف الإفريقية خالية من المرافق الحديثة، وقد تكون غير قادرة على الحفاظ عليها، مقارنةً بالمتاحف في بريطانيا وفرنسا وبلجيكا أو حتى ألمانيا التي تحتفظ بهذه القِطَع والأصول الإفريقية.


شَعر الامبراطور "تيودروس" الثاني:

في مارس الماضي أعلن متحف الجيش الوطني البريطاني، أنه سيُعِيد قُصَّتَيْ الشَّعر المسروقتين من الإمبراطور الإثيوبي "تيودروس الثاني" في القرن التاسع عشر؛ فقد قصّت القوات البريطانية الشعر من رأس الإمبراطور بعد انتحاره حتى لا يقع أسيرًا بيد القوات البريطانية التي هاجمت حصنه في "مَغْدَالا" (Magdala) عام 1868م.
وقد أفادت الكُتُب التاريخية بأن القوات البريطانية لم تَكْتَفِ بسرقة شَعْر الإمبراطور؛ بل نهبت الكثير من الممتلكات التي احتاجت عملية نقلها إلى 15 فيلًا و200 بغل. وتضمنت الكنوز المسروقة بعد المعركة أكثر من 500 مخطوطة قديمة، تاجين ذهبيَّن، صُلْبَانا وكؤوسًا مصنوعة من الذهب والفضة والنحاس، ورموزًا دينية أخرى. بينما نُقل ابنه الأمير "أليمايحو"، البالغ من العمر سبع سنوات إلى المملكة المتحدة إلى جانب الكنوز المنهوبة. وأصبحتْ قُصتا الشّعر منذ عام 1959م ضمن مجموعة متحف الجيش الوطني في لندن.

واعتبرت بعض التقارير أن قرار المتحف البريطاني إعادة شعر الإمبراطور الإثيوبي يُعتبر "لفتة مثالية للنوايا الحسنة"؛ كما أن لعودة الشعر -بعد مرور 151 عامًا- رمزيةً مهمة في إفريقيا بشكل خاص، وفي إثيوبيا بشكل عام؛ نظرًا لرمزية "تيودروس الثاني" في تاريخ إثيوبيا، وأهميته اللاحقة بالنسبة للإثيوبيين الذين دافعوا عن استقلالهم وأرضهم ضد الهجمات من دول قويَّة. وقد أشادت السفارة الإثيوبية في لندن بقرار المتحف البريطاني.

 

نصب ناميبيا البالغ 500 عام:

في يونيو 2017م، طلبت الحكومة الناميبية رسميًّا من ألمانيا إعادة أداة الملاحة والتنقل التي أخذتها ألمانيا من نامبيا، والتي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس عشر. وقد استجابت الحكومة الألمانية للطلب بالإعلان في شهر مايو الماضي عن عودة هذه القطعة الأثرية المعروفة باسم "الصليب الحجري" (Stone Cross)، وهي خطوة وصفتْها وزيرة الدولة للإعلام والثقافة الألمانية "مونيكا جروسيتس" بأنها تُظْهِر استعداد بلادها لمحاسبة ماضيها الاستعماري.

الصليب الحجري" في متحف ألماني/

تاريخيًّا، يقال: إن الرحَّالة البرتغالي "ديوغو كاو" هو الذي أقام علامة الملاحة التي يبلغ ارتفاعها 3.5 متر، والتي وُضعت لأول مرة على ساحل ناميبيا عام 1498م. وقد نُقلت إلى ألمانيا عام 1893م بعد أن أصبحت ناميبيا محمية الإمبراطورية الألمانية، وعُرضت في المتحف التاريخي الألماني في برلين، وتحظى باهتمام شديد لدى خبراء القِطَع الأثرية، بل وظهرت على خرائط العالم القديم.


سيف الحاج "عمر طعل" الفوتي:

في أولى خطواتها للوفاء بالتزام إعادة الكنوز التراثية والثقافية إلى مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا؛ أعادت فرنسا في نوفمبر الماضي سيفًا من القرن التاسع عشر مملوكًا للقائد الفقيه الشيخ الحاج "عمر سعيد طعل" الفوتي الذي أسَّس إمبراطورية "تكرور"، وقاد نضالًا ضد المستعمر الفرنسي في غرب إفريقيا.


وفي عام 1860م، وقّع الحاج "عمر طعل" معاهدة سلام مع فرنسا. وتُوفّي جرَّاء انفجار البارود -وفقًا للرواية الشهيرة- في عام 1864م. وسرقت فرنسا سيفه، كما تم الاستيلاء على كُتُبه من مكتبته العلمية الإسلامية.

وقد سلّم رئيس الوزراء الفرنسي "إدوارد فيليب" سيف الحاج "عمر" للرئيس السنغالي "ماكي سال" في حفلٍ أُقِيمَ في عاصمة السنغال؛ داكار، وذلك بمشاركة وحضور بعض من نَسل الحاج "عمر".

وقال "فيليب": إن عودة السيف كانت "الخطوة الأولى" في مشروع يهدف إلى إعادة المزيد من القِطَع الأثرية السنغالية الموجودة حاليًا في المتاحف الفرنسية التي تحتوي على ما لا يقل عن 90 ألف قطعة أثرية من إفريقيا جنوب الصحراء.

أما الحاج "مامادو مختار ثيام" -وهو من سلالة الحاج "عمر"، فقد نبَّه إلى ضرورة إرجاع الفرنسيين كُتُب الحاج "عمر" التي شكَّلت جزءًا من مكتبته الضخمة. "لقد أخذوا كلّ شيء، بما في ذلك مكتبته في سيغو، وآمل أن يُرجَع إلينا جميع كتبنا الموجودة الآن في فرنسا".

 

ديك "أوكوكور" من 1897م :

في أواخر نوفمبر الماضي، أعلنت "كلية يسوع – كيمبردج" أنها ستُعِيد ديكا برونزيًّا إلى نيجيريا، الأمر الذي يضيف زخمًا إلى تنامي حركة إعادة الكنوز إلى أوطانها. كما أنها بمثابة التزام بريطانيا بالاتفاق الذي أبرمه المتحف البريطاني في لندن مع الحكومة النيجيرية عام 2018م، بإعادة الكنوز البرونزية من إمبراطورية بنين النيجيرية التي نهبها الجنود البريطانيون عقب غزو بريطانيا للإمبراطورية.



وسيكون الديك البرونزي -الشهير باسم "Okukor"، والذي وصفته الكلية بأنه "إرث ملكي للأجداد" في بنين- واحدًا من أولى الكنوز البرونزية التي تُعيدها مؤسسة بريطانية كبرى إلى نيجيريا منذ ما يسمى بـ"الحملة الاستكشافية" عام 1897م عندما نهبت القوات البريطانية آلافًا من البرونز من إمبراطورية بنين.

قد كتب "جيمس روبرت فيليبس" - القنصل البريطاني العام الذي قاد عام 1896م بعثة صغيرة إلى قصر ملك بنين - إلى وزارة الخارجية البريطانية في العام 1895م:
"لديّ سبب للأمل في العثور على ما يكفي من العاج في منزل الملك لدفع مصاريف إزالة الملك من مقعده".


وإذ تباينت الآراء حول برونزيات امبراطورية بنين التي توجد في مخازن أوروبا ومتاحفها وتقدر بحوالي 3000 قطعة, فإن الموقف الأفريقي مختلف تماما: هذه البرونزيات مملوكة لامبراطورية أفريقية, وبالتالي يحب إرجاعها إلى أهلها, خصوصا وأنها تتعلق بثقافتهم وتاريخهم ومعتقداتهم.

"هذه البرونزيات أكثر من مجرد فن"؛ هكذا قال "Ikhuehi Omonkhua" - كبير مسؤولي المعرض بالمتحف الوطني في مدينة بنين: "إن إبقائهم في الخارج يشبه احتجاز أجدادنا كرهائن".

وفي حين أوصت بإعادة ديك Okukor "فرقة عمل تراث العبودية في كلية يسوع" (LSWP) -وهي مجموعة مُكَرَّسَة للنظر في روابط المؤسسة بالعبودية-، وأكَّدت أن والد أحد طلاب الكلية البريطاني قد تبرَّع به عام 1905م، إلا أن الكلية لم تحدد بعدُ تاريخ عودة الديك البرونزي ذي الرمزية في المعتقدات البنينية.

 

عقبات في طريق إعادة الأصول الإفريقية:

في أوروبا, يتمركز النقاش حول إعادة الكنوز والقطع الأثرية الأفريقية إلى أوطانها قضايا تتجاوز المتاحف وتشمل هوية هذه الآثار ومن يملكها وكيفية التوصل إلى اتفاق حول الماضي. ومن الواضح ممَّا سبق أن تنامي ضغوطات الدول الإفريقية وانتقادات مختلف المنظمات الدولية قد أثَّرا في مواقف الدول الأوروبية، وخاصة بعد إصدار التقرير الفرنسي.

فقد تقدمت السنغال والكونغو الديمقراطية وساحل العاج وجمهورية بنين بطلبات رسمية لإعادة مصنوعاتها اليدوية المسروقة. وأعلنت مؤسسة المجتمع المفتوح (OSF) أيضًا عن مبادرة بقيمة 15 مليون دولار تهدف إلى تعزيز الجهود الرامية إلى "استعادة الأشياء الثقافية المنهوبة من القارة الإفريقية". بل وافتتح متحف رجكس "Rijks" في أمستردام محادثات مع سريلانكا وإندونيسيا.

على أنّ الخبراء والكُتَّاب المهتمين بقضية استعادة المقتنيات الإفريقية من متاحف أوروبا يرون عدم سهولة عملية الاسترداد، ولكنها في رأي "فيلوين سار" –أحد مؤلفي التقرير الفرنسي- طريق حيوي ومهمّ بالنسبة لإفريقيا؛ لأنها ستساهم في عملية إنهاء الاستعمار.

وتشمل التحديات التي ستواجهها الدول المطالبة بعودة كنوزها؛ وجود حواجز وضعتها الدول الأوروبية على طرق استعادة هذه الممتلكات، وحاجة بلدان إفريقيا لإشراك مواطنيها في هذه المناقشات.

وأضاف:
"يحتاج الناس أولاً إلى معرفة ما تم أخذه منهم. بعد ذلك سيدركون أن هذه (العملية) ليست مناقشة للنخبة فقط، ولكنها مناقشة تتعلق بهم؛ بتاريخهم وتراثهم وإرثهم".

أما "سينديكا دوكولو" -وهو جامِعٌ للفنّ الكونغولي، ومدير مؤسسة نظَّمت عملية إعادة القِطَع الأثرية إلى الكونغو وأنغولا-؛ فقد صرّح بأنه
قد يكون من الصحيح أن "جيلًا كاملاً" من محترفي الاثار بحاجة إلى التدريب "في معظم الدول الإفريقية؛ نظرًا لضعف قدرة المتاحف الإفريقية على حماية هذه الممتلكات الفنية والحفاظ عليها. ورغم أهمية تدريب هذا الجيل الجديد، إلا أنه تقع على عاتق المتاحف الأوروبية مسؤولية التأكد من وصول الجماهير الإفريقية إلى قِطَعها الأثرية، وحصولها على مقتنياتها الفنية التي هي في حوزة أوروبا".

ــــــــ

نشرتُ المقال أيضا في دورية "قراءات إفريقية" بتعديلات طفيفية.

الأحد، 20 أكتوبر 2019

السياحة في أفريقيا.. نجاحات وتطلعات لمسبقبل أفضل

أكتوبر 20, 2019
السياحة في أفريقيا.. نجاحات وتطلعات لمسبقبل أفضل
في دراسته عن إمكانات السياحة في إفريقيا؛ أشار الباحث الكاميروني "لادري سيغني" إلى أن إفريقيا شهدت بعد نهاية الحرب الباردة بين عامي 1995 و2010م طفرة مبدئية في قطاع السياحة؛ حيث ارتفعت إيرادات السياحة في القارة بأكثر من 50% عنها في تسعينيات القرن الماضي (من 2.3 مليار دولار إلى 3.7 مليار دولار)، بينما زاد إجمالي عدد الوافدين الدوليين إلى القارة بنحو 300 في المائة (من 6.7 ملايين في عام 1990 إلى 26.2 مليون في عام 2000م).

وقد عزَّز استمرارَ هذه الاتجاهات في القرن الحادي والعشرين فترةٌ من النمو الاقتصادي والتحسينات في الاستقرار السياسي والانفتاح بجميع أنحاء إفريقيا. بل واصلتِ القارة خلال الأزمة المالية العالمية عامي 2007-2008م نُمُوّها في صناعة السياحة، بينما انخفض نُمُوّ القارات الأخرى؛ إذ زاد عدد الوافدين إلى إفريقيا بنسبة 3.7 في المائة في الفترة 2008-2009م. وما زالت القارة تحافظ على تقدّمها في مجال السفر والسياحة لتصبح فيما بين عامي 2018 و2019م ثاني أسرع المناطق نُمُوًّا في هذا المجال.

نجاحات قطاع السفر والسياحة في أفريقيا


أكّدت البيانات الجديدة من منظمة السياحة العالمية هذا التوجّه الإيجابي في إفريقيا؛ ففي عام 2017م نما قطاع السفر والسياحة في القارة بمعدل أسرع من أيّ منطقة أو قارّة عالمية أخرى، وبضِعف وتيرة النمو الاقتصاد العالمي. وقدَّم القطاع أربعة أضعاف الوظائف للأفارقة مقارنةً بالقطاع المصرفي؛ حيث حصل 22.8 مليون شخص عبر هذا القطاع على وظائف في جميع أنحاء القارة. إضافة إلى الإنفاق السياحي القوي؛ حيث يمثل قطاع السياحة 9.7٪ من إجمالي صادرات إفريقيا.

وبحسب التقديرات لعام 2017م، فإن عدد السياح الدوليين في القارة زاد بنسبة 8.6٪ مقارنة بمتوسط عالمي قدره 7٪. وبعبارة أخرى: جلب حوالي 63 مليون زائر دولي ما قدره 37 مليار دولار إلى إفريقيا في عام 2017م.

[caption id="attachment_1324" align="aligncenter" width="700"] قارة إفريقيا ثاني أسرع المناطق نُمُوًّا من حيث السياحة بعد آسيا والمحيط الهادئ (2018/2019م).[/caption]

ففي شمال إفريقيا؛ بدأ المصطافون الأوروبيون ينجذبون تدريجيًّا إلى دول المنطقة بعد الهجمات الإرهابية التي أثَّرت بشدة على قطاع السياحة فيها. وشهدت تونس نُمُوًّا بنسبة 23٪ حيث جذبت أكثر من 7 ملايين سائح، بينما جذبت المغرب مليون زائر إضافي في عام 2017م مقارنة بعام 2016م.

وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ زار جنوب إفريقيا أكثرُ من 10 ملايين وافد، وفي زيمبابوي 2.4 مليون وافد، وفي كوت ديفوار 1.5 مليون وافد. وأفادت الإحصاءات الحكومية الأخيرة في كينيا الواقعة بشرق إفريقيا إلى أن عدد زوار البلاد ارتفع إلى أكثر من مليونين في عام 2018م (من 1.4 مليون زائر عام 2017م). وأدى اهتمام الشباب بالسياحة المحلية في نيجيريا واستثمار الشركات المحلية والعالمية في قطاع السياحة إلى زيارة قرابة 1.9 وافد دولي للبلاد في عام 2016م، وجلب القطاع بشكل مباشر حوالي 2٪ من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.

وإذ أدَّى التسهيل في قواعد التأشيرة بإثيوبيا، إلى جانب تحسين البنية التحتية للنقل؛ إلى ازدهار صناعة السياحة في البلاد بزيادة 48.6٪ وتحقيق 7.4 مليار دولار في عام 2018م، فقد سجّلت وجهات السياحة الجزرية -مثل سيشيل والرأس الأخضر- نُمُوًّا مضاعفًا في عدد الوافدين إليها بسبب زيادة التوصيل الجوي وتسهيل عمليات السفر.

ويأتي هذا النمو في قطاع السياحة والسفر بإفريقيا نتيجة للخطوات والإصلاحات الملحوظة التي تتَّخذها القارة لتحسين السفر والاتصال مع الدول والمناطق الأخرى. وتتصدر هذه الخطوات مبادرة الاتحاد الإفريقي لتوحيد الأسواق الجويَّة ودعواته للدول الإفريقية إلى تخفيف لوائح التأشيرات؛ لتحسين السفر بين مواطنيها وشعوب القارة. إضافةً إلى إلغاء عدد من الحكومات الإفريقية قيودَ التأشيرات وإجراءات إطلاق المنتجات العالمية في دولها؛ وذلك لتعزيز الاستثمار وزيارات العمل المنتظمة من قارة آسيا.

إمكانات وتحدّيات


وجد تقرير 2019م الصادر عن شركة "Jumia" الإفريقية أن غالبية الزوار الأجانب كانوا من المصطافين، وأن 71٪ من الإنفاق السياحي في جميع أنحاء إفريقيا كان على الأنشطة الترفيهية، ما يؤكّد مكانة أنشطة التراث الثقافية والحفلات المختلفة داخل القارة، وأهمية ما تتمتع به إفريقيا من مواقع أثرية وأصول بيئية ضخمة وموارد طبيعية.

ويشير التقرير أيضًا إلى نجاح المبادرات الحكومية –كالتي قامت بها كينيا ورواندا وجنوب إفريقيا- لتعزيز السياحة إلى القارة. وهناك استراتيجيات أخرى ساهمت في النموّ السياحي؛ مثل: تنظيم الدول أو المؤسسات عدة اجتماعات ومسابقات ومؤتمرات، وكلها تؤدي تلقائيًّا إلى تذوّق الزائرين لجمال بيئة هذه الدول وتراثها، وتجذب الأعمال التجارية الدولية.

واستجابةً لهذا النمو في قطاع السفر والسياحة، بدأت العلامات التجارية من الشركات العالمية تكثّف استثماراتها في بناء المزيد من الفنادق الكبيرة في مختلف المدن الإفريقية. وأصبحت تطبيقات السفر وشركات السياحة العالمية –بما فيها Airbnb– تقدم للسياح والمسافرين عروضًا وبدائل ووجهات سفر إفريقية متعددة، وتوفر لهم أدلة السفر للمدن الإفريقية.

ومع ذلك، وعلى الرغم من كلّ هذه النجاحات والإنجازات لقطاع السفر والسياحة بإفريقيا؛ إلا أن هناك الكثير من الأعمال التي يجب القيام بها كي تحصل إفريقيا على نصيبها المستحق في صناعة السياحة العالمية، خصوصًا وأنَّ حصة الدول الإفريقية في رحلات السفر العالمية في عام 2017م لم تَعْدُ 5٪، بينما حصلت على 3٪ فقط من إجمالي الإيرادات السياحية العالمية.

وفي وجهة مسؤولي شركات السفر والسياحة الإفريقية، فإن هناك ما يُبَشِّر بالخير بالنظر إلى نجاح الاستراتيجيات المختلفة؛ ومنها: حملة "عام العودة"؛ لجذب الشتات الأسود من الأمريكتين وعودتهم إلى القارة. بل ويدعو مستقبل السياحة في القارة للتفاؤل أيضًا للتأثير الإيجابي الذي ستُحدثه "منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية" (AfCFTA) التي دخلت حيز التنفيذ في نهاية مايو الماضي.

"من المؤكد أن هذه المبادرة (أي: AfCFTA) ستزيد من حجم الأعمال التجارية داخل المنطقة، وبالتالي يحقق فوائد اقتصادية هائلة للقارة"؛ هكذا قالت "ايستيلّي فيردير" – رئيسة مجموعة Jumia Travel.

ـــــــــ

تنبيه: نشرتُ المقال أيضا في دورية قراءات أفريقية.

الاثنين، 14 أكتوبر 2019

"جيل الفهد" الأفريقي واستخدام الشبكات الاجتماعية

أكتوبر 14, 2019
"جيل الفهد" الأفريقي واستخدام الشبكات الاجتماعية
أشارتْ "شانون فالور" في العام 2007م، وقبل الإطلاق الرسمي للفيسبوك عام 2008م، إلى أنه يجب على الأفراد تعلُّم وتطوير بعض "الفضائل" التي من شأنها أن تساعدهم على إدراك إمكانات أشكال التفاعل الشخصي والتواصل مع الآخرين عبر الإنترنت.

وقد فصَّل "جيم ماكدونيل" في هذا لاحقًا عام 2011م عندما قال: إن التقنيات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي لا تخلو من شخص متصل بها، وإنه على هذا "الفرد المتصل بالشبكة" أن يتعلم المهارات و"الفضائل" التي تجعله قادرًا على المشاركة والازدهار عبر الإنترنت، خصوصًا في المجتمعات العالمية الأكثر تعقيدًا.

اليوم أصبح لزامًا على من يريد النجاح في القرن الحادي والعشرين أن يتبنَّى الشَّابِكة (أو الإنترنت)، ومن المرجّح أن يعزّز حُسن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أنشطةَ المبتكرين التجارية والتعليمية، وأن يساعد في إحداث التغيير في مختلف المجالات الاجتماعية. ولكن البروفيسور "تيري أندرسن" في دراسته الجديدة قد نوَّه أيضًا إلى الجانب السلبي المتمثل في إمكانية فقدان التحكم في هذه الوسائل الاجتماعية، واستخدام بياناتها بشكل غير لائق مِن قِبَل الأشخاص والمؤسسات.

وقد أثرت رقمنة الإعلام بإفريقيا وتحوّل السكان الأفارقة بشكل متزايد من مستهلكي الوسائل الإعلامية التقليدية إلى مستخدمي الشبكات الاجتماعية؛ في التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان لهذا التحوُّل تأثيره على طبيعة الأعمال التقليدية التي تأبى التكيُّف مع الوضع الجديد وإعادة الهيكلة، أو التي ترفض فكرة أنّ بإمكان الشبكات الاجتماعية أن تُعزّز أعمالها ورسائلها.

وأعطت هذه الوسائط الجديدة مواطني الدول الإفريقية فرصًا لإعادة تشكيل الطريقة التي يشاركون بها في المناقشات السياسية، وخلق بدائل لأنفسهم من حيث الأعمال التجارية، الأمر الذي قُوبِلَ بتفاؤل شديد مِن قِبَل الباحثين داخل إفريقيا الذين يدرسون العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع، ومدى فاعلية النشاط الرقمي (digital activism).

"جيل الفهد" والتغيير في إفريقيا


لقد شهدت إفريقيا في السنوات الأخيرة أعلى معدلات نُموّ في العالم؛ من حيث انتشار الإنترنت واستخدامه، ما يعني توقُّع المزيد من الأحداث والتغييرات التي ستلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا رئيسًا فيها. كما يعني أن القارة ستجذب المزيد من المستثمرين الدوليين؛ نظرًا لأعداد سُكّانها الذين يُعْتَبرون أغلبية شابَّة، أو "جيل الفهد" كما سمّاهم الاقتصادي الغاني "جورج أيِتَيْ" (George Ayittey).

[caption id="attachment_1321" align="alignleft" width="300"] مؤيدو الناشط السياسي "ايفان مواريري" قائد مظاهرات "thisflag" في زيمبابوي.[/caption]

ويزخر "جيل الفهد" الإفريقي بصُنّاع القرار والمخترعين وأصحاب رؤوس الأموال والكُتّاب وصانعي السياسات الذين خذلتْهم حكوماتهم، ورأوا أن الأحرى بهم أن يقودوا ذلك التغيير الذي يحلمون به بأنفسهم، بدءًا من إعادة تشكيل القارة. وكانت الأداة المتاحة بسهولة لجميع هؤلاء الشباب هي الإنترنت والشبكات الاجتماعية؛ فأطلقوا المواقع الإلكترونية لرواية قصصهم بإيجابية، وسرد حكاياتهم بواقعية؛ لدحض النمطية المعتادة. كما استخدموا الشبكات التواصلية مثل الفيسبوك وتويتر؛ لمناهضة حكوماتهم، بكشف فساد أفرادها، وفرض الإصلاح على الإدارات السياسية.

ولذلك شهدت القارة في السنوات الأخيرة نماذج حية ناجحة عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في إحداث ثورات ومظاهرات؛ ففي عام 2011م أعاد التونسيون والمصريون كتابة تاريخهم باستخدام الشبكات الاجتماعية في مساعي إسقاط رئيسَيْهم، بينما أطلقت مجموعة من الجنوب إفريقيين عام 2015م حملة #ZumaMustFall لإقالة الرئيس السابق "جاكوب زوما" من رئاسة البلاد، وآخرون في زيمبابوي عام 2016م قادوا حملة #ThisFlag الإلكترونية لإزاحة الرئيس السابق "روبرت موغابي" عن السلطة.

وبالإضافة إلى المطالبات بإصلاحات سياسية واجتماعية، فقد ركّز مطوّرو التكنولوجيا ومدوّنون في نيجيريا وكينيا وجنوب إفريقيا مجهوداتهم على استغلال الصفحات الاجتماعية والتقتيات الحديثة الأخرى لوضع بلدانهم على خريطة العالم بشكل إيجابي، والمساهمة في التنمية الإفريقية.

وقد وصفت "مريم جامي" -سيدة أعمال سنغالية- الطفرة في وسائل الإعلام الجديدة بإفريقيا، بأنها تُتيح للأفارقة نفخ بوقهم بأفواههم، وجعل حكوماتهم مسؤولة، وإجبار مجتمع التنمية الدولي على إعادة تحديد استراتيجية الاتصال مع إفريقيا بشفافية؛ حتى يتمكن الجيل الجديد من المشاركة في المشاريع المجتمعية والبرامج التنموية.

من جانب آخر؛ اضطرّ القادة الأفارقة إلى تسجيل حضورهم على المواقع الاجتماعية؛ وذلك لوصول عدد أكبر من الجماهير أو لمتابعة شكاوى المواطنين والنقاشات السائدة؛ ففي سبتمبر 2010م أعلن الرئيس النيجيري السابق "غودلاك جوناثان" ترشيحه لرئاسة البلاد عبر الفيسبوك؛ حيث وصل إعلانه إلى مئات الآلاف خلال دقائق. كما قرّب هذا الحضور أيضًا عملية الحوكمة إلى المواطنين الذين يتحدّون مسؤوليهم، ويطلبون اتخاذ إجراءات محدَّدة، أو إثارة قضية معيَّنة عبر تغريدة قصيرة فقط. بل إن المنشورات على الصفحات الاجتماعية أصبحت وقودًا لتحفيز التحركات في الشوارع تأييدًا أو معارضةً للحكومات الإفريقية.

تحديات استخدام الشبكات الاجتماعية في أفريقيا


على الرغم من الفوائد المذكورة لاستخدام الشبكات الاجتماعية في إفريقيا، إلا أنها أيضًا من الأدوات الفعَّالة التي تستخدمها الجماعات الإرهابية، وحركات العنف في إفريقيا؛ للتأثير في السكان المحليين وأفراد قوات الأمن المكافحين لأنشطتهم، وذلك عبر نشر فيديوهات مختلفة تُرَوِّج لأنشطتها وهزيمتها للحكومات، ونشر تغريدات تُعبِّر عن إمكاناتها وقدرتها على مواصلة شنّ الهجمات (تبنّتْ هذا النهج كلٌّ من "بوكو حرام" في بحيرة تشاد وشمال شرق نيجيريا، وحركات متطرفة أخرى في الساحل وشرق إفريقيا). بل وتزوّد وسائل التواصل الاجتماعي الإرهابيين بأداة تشغيلية لتجنيد الأطفال، واستدراج الشباب، وتدريبهم، والتواصل معهم.

يُضاف إلى ما سبق: أنَّ المشاهد السياسية في إفريقيا لم تسلم من انتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المزيفة لزعزعة الاستقرار وإحداث البلبلة؛ وذلك لنيل مكاسب سياسية معيَّنة. وتكفي أحداث الهجمات الأخيرة على الأجانب بجنوب إفريقيا كمثال على ذلك؛ حيث إنَّ الأخبار المُضَلِّلَة والتغريدات المسيئة للأجانب، وخصوصًا الأفارقة المقيمين في البلاد، ساهمت في إثارة غضب المواطنين الجنوب إفريقيين الذين خرجوا وطلبوا من الأجانب مغادرة بلادهم.

وقد أشار كُتّابٌ وباحثون إلى أن دور وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج الأزمات بمثابة الدور الذي لعبتْه الوسائل الإعلامية - كالإذاعة (الراديو) - في أعمال العنف برواندا عام 1994م، أو دور الرسائل النصية في أزمة كينيا عام 2007م؛ بنشر الإشاعات، وغرس الخوف، وتعبئة مرتكبي الجرائم والعنف.

يُضاف إلى ما سبق أنَّ الانتخابات في مختلف الدول الإفريقية ظلّتْ أهدافًا لحملات التضليل مِن قِبَل مجموعات تابعة لفصائل سياسية محدَّدة بالاعتماد على تطبيقات الشبكات الاجتماعية؛ ففي شهر مايو الماضي أعلنت الفيسبوك أنها حذفتْ شبكة من الحسابات المزيفة التابعة لشركة إسرائيلية استهدفت الانتخابات الإفريقية وشخصيات سياسية داخل القارة.

الحكومات الأفريقية وإغلاق الشبكات الاجتماعية


تتكرر سيناريوهات حظر الإنترنت، وإغلاق الشبكات الاجتماعية في عدة دول إفريقية. وقد برَّر مسؤولو هذه الدول أفعالهم بأنهم يحاولون الصدّ عن الأخبار المزيفة ومخاطر التضليل الإعلامي عبر الإنترنت أثناء الأزمات والهجمات الإرهابية والاضطرابات الاجتماعية.

وقد حدث أول التعتيم الرقمي المعروف في إفريقيا جنوب الصحراء عام 2007م، عندما أمر الرئيس السابق "لانسانا كونتي" في غينيا بحجب الإنترنت في أعقاب الاحتجاجات الداعية إلى استقالته. فانتهج رؤساء آخرون منهجه لاحقًا، وخاصة بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي ينظرون إليها بريبة وخطورة. واليوم شهدت حوالي 26 من أصل 54 دولة إفريقية حجب الإنترنت أو إغلاق الشبكات الاجتماعية؛ بما فيها: الكاميرون، بنين، مصر، إثيوبيا، السودان، تشاد، والكونغو الديمقراطية.

ولم تكتفِ بعض الحكومات بالحجب فقط، بل سعتْ أيضًا إلى تقديم لوائح عقابية وسنِّ قوانين حول الإنترنت والشبكات الاجتماعية (أوغندا وتنزانيا على سبيل المثال) -وهي خطوة تهدف أحيانا إلى الحدّ من إبداء الشباب لآرائهم عبر الإنترنت في الدول التي يحكمها "الرجال الأقوياء"، وتُشكّل تهديدًا للنجاحات التي أحرزتها القارة من حيث مشاركة المجتمعات والشباب في العملية السياسية وقيادة التغييرات الاجتماعية وتحسين الحياة العامة.

ونتيجةً لذلك، يلجأ الكثير من مواطني الدول التي تحظر الإنترنت إلى شبكات افتراضية خاصة للتحايل على الحظر، وأخذ آخرون على عاتقهم مهمة تحدِّي الحظر والحجب في المحاكم؛ كالذي حدث في أوغندا والسودان وزيمبابوي والكاميرون والكونغو الديمقراطية.

وإذ يرى الخبراء أن موقف الحكومات -بأنها تحجب الإنترنت لصدّ الأخبار المزيفة- غير مبرَّر، فإن هناك شبه اتفاق بين الباحثين على أن حجب الإنترنت أو إغلاق الشبكات الاجتماعية لا يردع المظاهرات والاحتجاجات. ففي السودان مؤخرًا لم تتمكن القيود المفروضة على وسائل التواصل الاجتماعي وحجب الإنترنت من وقف الاحتجاجات السلمية. وفي الجزائر واصل المتظاهرون دعواتهم لاستقالة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة من منصبه حتى عندما حظرتْ إدارتُهُ الإنترنتَ.

"يجب علينا أن نتذكر أن عمليات الإغلاق (للإنترنت) ليست أسلوبًا جراحيًّا وموجهًا داخليًّا لاستهداف اللغة الخطرة، إنها (فقط) تُعادل بشكل رقميٍّ عمليةَ كسر الباب"؛ هكذا قال "جان رايدزاك" الذي يدرس ديناميات إغلاق الإنترنت وحجب الشبكات الاجتماعية في حاضنة السياسة الرقمية العالمية بجامعة ستانفورد.

أما عن مكافحة الأخبار المزيفة عبر الإنترنت؛ فإن الطريقة الفعّالة –وفق الخبراء- أن تعمل الحكومات الإفريقية مع مجتمعاتها المدنية والمنافذ الإعلامية للمساعدة في إظهار الحقائق وكشف التضليل في الأخبار والمنشورات. ويمكن للحكومات أيضًا أن تتعاون مع شركات الشبكات الاجتماعية ومطوّريها؛ لبحث حلول تتناسب مع بيئاتها ولغاتها المحلية.

 

الجمعة، 11 أكتوبر 2019

مبادرة "الحزام والطريق" الصينية ومواقف الدول الأفريقية

أكتوبر 11, 2019
مبادرة "الحزام والطريق" الصينية ومواقف الدول الأفريقية

أطلقت الصين في عام 2013م بشكل رسمي مبادرة "الحزام والطريق" (Belt and Road Initiative) العابرة للقارات، والقائمة على أنقاض طريق الحرير القديم. وأنفقتْ مئات المليارات من الدولارات على مشاريع الموانئ والسكك الحديدية والطاقة في آسيا وإفريقيا وأوروبا.

وإذا كانت الصين تُروِّج لمبادرتها على أنها تهدف لتوسيع البنى التحتية في "الدول النامية"، وتحسين التواصل بينها، إلا أنها أيضًا تهدف إلى كسب تأييد حكومات تلك الدول وسكانها المحليين الذين يستفيدون من الاستثمارات الصينية والوظائف الجديدة الناتجة عنها. وقد نالت المبادرة اهتمام مسؤولين ومحللين في أوروبا الذين يقفون على أعتاب سلبيات المبادرة، وينظرون إليها من حيث النوايا الصينية "الدفينة" والطموحات الجيوسياسية "الشريرة".

ووفقًا للآراء السائدة, فإن مبادرة "الحزام والطريق" بمثابة "فخّ ديونٍ دبلوماسية"؛ فالصين تُموِّل البنى التحتية للاقتصادات النامية وفقًا لشروط قروضٍ غير شفَّافة من أجل زيادة مديونية البلد المتلقِّي ليكون ضعيفًا أمام الصين سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا. وأقرب مثال يحتجُّ به المنتقدون هو سيناريو تبادل الديون مقابل تنازل البلد المتلقي عن حقوق الملكية. ففي عام 2017م عفت الصين عن ديون سريلانكا البالغة 8 مليارات دولار مقابل إيجار ميناء هامبانتوتا السريلانكي لمدة 99 عامًا.

على أنه يوجد من الخبراء الاقتصاديين في الغرب من يرى عدم الإنصاف في سياسة دول غربية –كالولايات المتحدة الأمريكية– بجعل الصين عدوها الأول لنيل مكاسب سياسية محلية، وإكسابها صفة "العدو المشترك" في المحافل الدولية؛ الأمر الذي يُفْقِد هذه الدول الغربية فرص العمل بشكل بنَّاء مع الصين في "العالم النامي".

دور الدول الأفريقية في مبادرة "الحزام والطريق":

لقد أعلن الرئيس الصيني "شي جين بينغ" في عام 2013م أن عشرات الدول وقَّعَت على مخططها. وتشمل هذه الدول 40 دولة من أصل 55 دولة إفريقيةٍ وقَّعَتْ -إلى جانب الاتحاد الإفريقي- مذكرات تفاهم مع بكين لتمويل وبناء الطرق السريعة الحديثة والمطارات والسكك الحديدية. وحاليًا يُعَدُّ تمويل الحكومة الصينية الدائن الرئيسي لثلاث دول بالقارة: جهورية (الكونغو برازافيل)، جيبوتي و زامبيا.

ترى "بيارل ريزبرغ" -الخبيرة الاقتصادية الأمريكية- أنه من الصعوبة تفكيك النتائج الاقتصادية الإيجابية لمبادرة الصين في "البلدان النامية" عن النتائج السلبية؛ بسبب طبيعتها المعقدة أيديولوجيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا.

لكن "يون صن" -مديرة مركز "ستيمسون"- أكّدتْ خلال جلسة استماع بالكونجرس الأمريكي حول استثمارات الصين في إفريقيا على "أن الطموحات الاستراتيجية للصين ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاركتها الاقتصادية في إفريقيا، وتعزّز بعضها بعضًا".

على أنه بعد مرور ست سنوات على انطلاقة المبادرة، أحجمت 14 دولة إفريقية عن الانضمام إلى ذلك المخطط، مما أثار تساؤلات عن حُجَج هذه الدول، ومكانتها في خريطة حزام بكين. وتنتشر هذه البلدان عبر أربع مناطق إفريقية: في الشرق (إريتريا، موريشيوس، وجزر القمر)، وفي الوسط (الكونغو الديمقراطية، وجمهورية إفريقيا الوسطى)، وفي الغرب (بنين، غينيا الاستوائية، غينيا بيساو، ساو تومي وبرينسيبي، وبوركينا فاسو)، وفي الجنوب (ايسواتيني، بوتسوانا، ليسوتو، ومالاوي)، بينما دخلت جميع بلدان شمال إفريقيا في المبادرة.

ويتركَّز مُوقِّعُو مذكرات التفاهم الخاصة بالمبادرة في منطقة شرق إفريقيا؛ حيث تُطَوِّر الصين مشاريع ضخمة للبنية التحتية بمليارات الدولارات. وشملت هذه المشاريع خطوط السكك الحديدية في كينيا وإثيوبيا، إضافة إلى مشاريع الموانئ في جيبوتي.

مبررات الدول الـ14 التي لم تنضم للمبادرة:

إن عدم انضمام هذه الدول الأفريقية إلى مبادرة "الحزام والطريق" يعني أن قادة الدول الأفريقية بدأوا يدركون ضرورة دراسة كل اتفاقية تُعرض لها, وأهمية الاعتبار بدروس أخواتها وأخطاء جاراتها. وحتى الآن لا توجد بيانات واضحة من هذه الدول تُبرّر عدم توقيعها لمذكرات التفاهم مع الصين حول المبادرة. كما أنه لا يوجد مبرِّر موحّد لهذه الدول لاختلاف مواقفها وطبيعة علاقاتها مع الصين في العقود الثلاثة الأخيرة.

وقد ذكر الكاتب الكيني-الصومالي "عبداللطيف داهر" أن هناك عوامل سياسية واقتصادية تدفع بعض دول القارة إلى تبنِّي موقف الانتظار لنتائج المبادرة، ومراقبة سيرورة العملية، حتى وإن كانت "هانا رايدر" -الرئيسة التنفيذية لشركة "ريماجيند ديفيلوبمنت" للاستشارات- ترى أنّ لسياسية الصين الداخلية دورًا رئيسيًّا في قرارات هذه الدول.

ومن الناحية السياسية؛ لم تُوَقِّع مملكة اسواتيني (سوازيلند سابقًا) على مبادرة "الحزام والطريق"؛ لأنها تعترف بـ"تايوان"، والتي تُعتَبر لدى الصين جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. بل أصبحت "اسواتيني" الصديقة الإفريقية الوحيدة لـ "تايوان" بعدما استأنفت كلٌّ من "ساو تومي وبرينسيبي" وبوركينا فاسو علاقاتهما مع الصين مؤخرًا بعد قطع علاقاتهما مع تايوان عامي 2016 و2018م على التوالي.

"يدفعنا تطوّر العالم والتحديات الاجتماعية والاقتصادية لدولتنا ومنطقتنا إلى إعادة النظر في موقفنا. هذه هي المرة الثانية التي تقطع فيها بوركينا فاسو علاقاتها مع تايوان، كان آخر مرة قامت بذلك في عام 1973م، قبل استئنافها في عام 1994م"؛ هكذا برّرت وزارة خارجية بوركينا فاسو قرارها بقطع العلاقات مع تايوان واستئناف العلاقات مع الصين عام 2018م.

ولاحظتْ "رايدر" وجود عامل آخر يساهم في عدم انضمام بعض الدول الإفريقية للمخطط الصيني، وهو أن 7 من أصل هذه الدول الـ14 -بما فيها: الكونغو الديمقراطية، جمهورية إفريقيا الوسطى، وبنين- عارضت انضمام الصين إلى الأمم المتحدة عام 1971م. ويعضد هذا عدم تنظيم أيٍّ من القادة الصينيين أيَّة زيارات رفيعة المستوى إلى كلٍّ من جزر القمر وليسوتو في العقد الماضي؛ رغم تطور العلاقات الصينية مع غالبية دول القارة تقريبًا، وزيارة مسؤوليها للقارة بانتظام.

وفي حالة بعض الدول مثل موريشيوس وبوتسوانا وغينيا الاستوائية، والتي تُعتَبر اقتصادات متوسطة الدخل؛ يُفَضِّل مسؤولو حكومات هذه الدول الانتظار قبل القفز على عربة توقيع مذكرة التفاهم؛ وذلك لمعرفة ما قد تَعْنيه المبادرة لبلدانهم، ومراقبة ممارسة الآخرين للعملية؛ مخافة ما قد يترتب عليها من الآثار السلبية، خصوصًا وأن قوة الأنظمة السياسية واستقرارها في دول مثل موريشيوس وبوتسوانا قد ساهما في إبقاء المشاريع الصينية تحت المجهر العام والمراقبة الوطنية، مما يجبر مسؤولي مثل هذه البلدان على الاحتراز من أيَّة اتفاقيات مبهمة.

غير أن الصين -رغم ما سبق- لم تيأس من احتمال انضمام كلّ الدول الإفريقية إلى مخططها؛ حيث تُواصِل جهودها في تسويق مبادرة "الحزام والطريق" داخل القارة؛ بالتركيز على منافعها طويلة المدى، مع تعهدات بعلاقات أقوى وشراكات تجارية مربحة للجانبين.

ومع ذلك، لا يضمن انضمام كل القارة إلى مبادرة "الحزام والطريق" نجاح المخطط في إفريقيا؛ لأن الصين نفسها -بعد انضمام 40 دول إفريقية إلى عربة المبادرة- لا تستطيع الجزم بأن كل إفريقيا ستستفيد من مبادرتها؛ حيث أشار التقرير الجديد لـ"Silk Road Associates" للاستشارات ومؤسسة المحاماة العالمية "Baker McKenzie" إلى هذا، وأظهر أن التوترات الجيوسياسية العالمية، والحروب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وسياسات الحماية كلها قد تُخفِّض حوالي 800 مليار دولار من المخطط الصيني، وهذا سيؤثر على المشاريع المخطَّط لها، ونسبة الفوائد التي تُقدِّمها المبادرة لإفريقيا على المدى الطويل.

ـــــــــــــــــ

تنبيه: نشرتُ نسخة من المقال أيضا في دورية قراءات أفريقية.