الخدمة الوطنية في نيجيريا .. قراءة في رواية "إدْيوسِنْكريسي" - حكيم ألادي نجم الدين

السبت، 8 يوليو 2017

الخدمة الوطنية في نيجيريا .. قراءة في رواية "إدْيوسِنْكريسي"

شباب نيجيريون حديثو التخرّج في إحدى معسكرات الخدمات الوطنية في باييلسا

شهدت نيجيريا خلال السنوات الأولى من الاستقلال عن بريطانيا عدة الصراعات والنزاعات القبلية, والتي أدّت بالحكومة وقتذاك لبحث سبل تعزيز الوحدة بين كل أبناء الوطن - بدءا من الشباب عن طريق برنامج يحدّ من التحيز الثقافي والجغرافي.

فكان الحل في وجهة نظر الحكومة تأسيس "فيلق الشباب للخدمة الوطنية National Youth Service Corps", تعرف باختصار (NYSC) - وهي منظمة نيجيرية أنشأتها الحكومة العسكرية في 22 مايو عام 1973 بقيادة الجنرال "ياكوبو غووان" ضمن برنامجه لإعادة الإعمار والتعمير والمصالحة في جميع أنحاء البلاد. وكان الهدف من المنظمة إشراك الخريجين النيجيريين الجدد من مؤسسات التعليم العالي في التنمية الوطنية, وتشجيع العلاقات المشتركة بين الشباب لتعزيز الوحدة الوطنية.

اليوم وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على تأسيس "فيلق الشباب للخدمة الوطنية", صارت الأجواء في نيجيريا تعتاد النقاشات التي دائما ما تدور حول إلغاء أو إصلاح المنظمة وبرنامجها للخريجين من الشباب, حيث يتم نشرهم إلى ولايات غير ولايات منشأهم، لخدمة إلزامية لمدة سنة واحدة لوطنهم. وفي بداية سنة هذه الخدمة الوطنية، يرسل الخريجون الجدد إلى معسكر توجيهي مدته ثلاثة أسابيع ليتدربوا على الترتيبات العسكرية، ثم يُنقلون إلى أماكن عملهم الابتدائي خلال الأشهر العشرة المتبقية من سنة الخدمة.

وبينما كانت أصوات المطالبين بإلغاء أو إصلاح برنامج "فيلق الشباب للخدمة الوطنية" في أوجّ ارتفاعها, نجحت المنظمة في إثبات أهميتها وتأثيرها الوطني خلال الانتخابات العامة التي أجريت في عام 2015, إذ لعب الشباب المسجلون في الخدمة الوطنية في ذلك العام دورا هاما في النجاحات الكبيرة المسجلة أثناء الانتخابات.

ولكن من يدري؟! علّ السبب الرئيسي وراء الانتقادات الموجهة للبرنامج في الآونة الأخيرة يكمن في تزايد انعدام الأمن في شمال شرق نيجيريا, وتعرّض حياة الشباب حديثي التخرّج للخطر, الأمر الذي دفع الإصلاحيون للدعوة إلى نشر الخُدّام (المسجلين في الخدمة الوطنية) في ولاياتهم الأصلية لتجنب التعرض للقتل.

وفي الحقيقة, سيتنافى نشر المسجلين في البرنامج في ولاياتهم الأصلية, مع المثل العليا للبرنامج والهدف المأمول منه – والذي يقوم على أساس التماسك الوطني والتكامل الاجتماعي والثقافي والسياسي.

أما بالنظر إلى الوضع الذي وجد البرنامج نفسه اليوم, فإن الطريق الوحيد أمام المنظمة هو تعزيز هياكلها وتوفير الأمن الكافي للمسؤولين وأعضائها الشباب لتمكينها من تحقيق هدفها الوطني.

وهناك جانب آخر للبرنامج يعدّ مصدر قلق للآباء والمرشدين – وهو الجانب الأخلاقي. لأن الشباب المسجلين – رغم المراقبة الموضوعة من قبل المنظمة – يحسون بشيء من الحرية, وبالتالي يرون أنه بإمكانهم الغرق في المجون دون اعتبار أن ما سيقدمون عليه من أخلاق رذيلة ستشكّل خطواتهم التالية بعد ترك المعسكر.. ومن هنا جاءت أهمية رواية "إدْيوسِنْكريسي (الغريزة الفطرية)" للكاتب الأستاذ "لانسي حسن عثمان".

كاتب الرواية: لانسي حسن عثمان

في أواخر عام 2013 بعد أسابيع من عودتي إلى نيجيريا, كان أول من لقيته في العاصمة أبوجا كاتب الرواية الأستاذ الجليل لانسي حسن, حيث استضافني أيما استضافة, والأهمّ ما استفدت منه من كتاباته العلمية ومنشوراته الفكرية والروايات النيجيرية باللغة العربية التي تحكي واقع المجتمع المعاش. 

وُلد لانسي حسن عثمان بمدينة "إبادن" – عاصمة ولاية "أويو" جنوب غرب نيجيريا. ولأنه ينتمي إلى أسرة مشهورة بالعلم والدين، فقد تعلّم المبادئ الإسلامية والعربية من أبويه، وتخرّج من المرحلتين الإعدادية والثانوية من مدرسة "عباد الله" في لاغوس, ثم من الجامعة الإسلامية بالنيجر - قسم اللغة العربية شعبة الأدب، ثم من المعهد العالى للتربية وتكوين الأساتذة فى الجامعة نفسها.

وخلال خدمته الوطنية, ذاع صيت لانسي حسن في المؤسسات التعليمية التي خدم فيها. ليشتهر بعد الانتهاء من الخدمة بأعماله الأدبية حتى عُرف بألقاب تعبر عن نشاطاته الأدبية. وعمل سكريترا للغة العربية فى مدرسة نور البيان – وُوسَي أبوجا, ثُم عيّن مترجما وسكريترا للغة العربية فى المركز الدولي للثقافة الإسلامية والتعليم بأبوجا. وهو الآن مدرّس اللغة العربية فى أكاديمية الآفاق, كادو أبوجا.


وقد أعدّ لانسي أوراقا علمية وكتب مقالات أدبية منها: دراسات فى المسرحيات، عِبَارَاتٌ وعَباراتٌ، الإعجاز البلاغي بين القديم والحديث، الأبعاد التربوية لدى بديع الزمان (النورسي)، رواية إديوسنكريسي, ملوك “كبّ” (ولاية نيجيرية في شمال الغرب) عبر تاريخ نيجيريا. وترجم أيضا قصصا شهيرة من اللغة الإنجليزية إلى العربية (لم تنشر بعد) منها: كتاب (Attahiru) للبروفيسور أحمد يريما، (Koku baboni) لـ"كولا أوناديبي"، و(Dictate of Destiny) لـمحمد الأول باباتندي. وله ديوان شعر بعنوان (نيجر).

الرواية: إدْيوسِنْكريسي

يستطيع المتابع للأعمال الأدبية لعدد من الأكاديميين المعاصرين دارسي اللغة العربية من أفريقيا, أن يستنتج أنّ كتاباتهم تتسم باستخدام العربية في تناول كل ما يتعلق بالقارة من تاريخ وثقافة وأحداث, وبهذا نتخطّى تلك الفترة التي يرى البعض أن العربية صالحة فقط للأمور الفقهية والدينية, أو صناعة أشعار يبكون فيها على الأطلال والمنازل البالية في الصحراء, والوقوف على ذكريات داحس والغبراء - بينما تزخر قارتهم الأفريقية بمحطات ومواقف مسجلة وغير مسجلة تحتاج منهم الكشف والتدوين بشتى اللغات – بما فيها العربية.

تحوي رواية "إدْيوسِنْكريسي" التي صدرت عام 2017 في العاصمة النيجيرية أبوجا, في طبعتها الأولى, عشرة فصول, و72 صفحة, إضافة إلى التلخيص باللغة الإجليزية فى ثلاث صفحات في آخرها.

غلاف رواية إدْيوسِنْكريسي
للكاتب لانسي حسن عثمان
ومما يميز الرواية أن صاحبها أعطى فكرة عما يعنيه هو بمصطلح "إدْيوسِنْكريسي idiosyncrasy" الذي كان أصله من اليونانية (ἰδιοσυγκρασία idiosynkrasía), حيث أضاف مع المصطلح – كما ظهر في الغلاف: "الغريزة الفطرية". وذلك لأن لمصطلح "إدْيوسِنْكريسي" تعريفات متعددة حسب المقتضيات ومراد المستخدم.

تحكي رواية "إدْيوسِنْكريسي" بشكل عام حياة الشباب عندما ينضمون إلى برنامج الخدمة الوطنية وما يحدث فيه من جرائم تثير المشاعر وتتطلب التأمل.. فالرواية إذًا عبارة عن "الصفحات السوداء لحياة المراهقين وما تتبعها من أنباء أدمعت العيون.. إنها حياة وسيرة."

لقد وُفّق الكاتب في روايته حيث جمع بين ألفاظ رنانة عند توصيف أشياء ملهاة وبين كلمات معقّدة في الفقرات المحزنة لقصة شابة جميلة وموهوبة تحظى بحب الذين حولها، ويأمل لها الجميع مستقبلا مثمرا, غير أنها ألقت بنفسها إلى التهلكة بدءا من مرحلتها الجامعية ومرورا إلى تسجيلها في الخدمة الوطنية, وذلك لتصرّفاتها اللاواعية ليبلغ الهلاك ذُروته فى اليوم الذي يُوزع على الخُدَّام الوطنيين شهادة خدمتهم.. إنها رواية عن انغوسي (Ngozi) النبيلة المدللة!

يعدّ كل فصل من الرواية تكملة لآخر. ويحمل الفصل الأول عنوان "امرأة موهوبة" – وهي انغوسي التي عادت إلى دار أبيها السيد " جونسون" بعد وفاة جدتها. "فقد نمت انغوسي إلى امرأة بالغة، رشيقة عفيفة، ناعمة البشرة عريضة القامة، عيناها تحكي جمالها، حمراء معتدلة، رفيعة الحاجبين ولها نقطتان سوداوان أولاهما قريبة إلى أنفها والآخر فى عنقها، تقف بين زملائها كزهرة متفتحة، رباها أبوها بعد الجدّة."

كانت انغوسي ذكية متوقدة الذهن، "وبجانب ذكائها تمارس التدريبات بالحاسوب الذي اشتراه لها أبوها من أول التحاقها بالجامعة. كانت بداية انعطاف حياتها الخاطئ عندما انضمت إلى "نادى الرقص", وكان ضمن فعاليات فرقة انغوسي ممارسة السحر والشعوذة، لتتحوّل الشابة الموهوبة إلى ما لا يمكن تصوره, وصارت تتناول الممنوعات والمسكرات معهم.
ومما يلاحظ في فصول الرواية, استغلال لانسي حسن فقرات روايته لتقديم النصائح للمسؤولين والشباب – على حد سواء, وإبداء آرائه في عدة أمور اجتماعية وسياسية. وعلى سبيل المثال, تطرق الكاتب في الفصل الأول بعد عدة فقرات إلى عدة قضايا تخصّ الشباب, حيث قال: 
"..الشباب رمز وحلقة تربط بين ماضى المجتمع وحاضره ومستقبله، وتحقق الآمال التى تسعى إليها الأهداف الاجتماعية التى يعيشها الإنسان، فَسِرُّ استمرار الحياة كامن فى الجيل الراهن.. أصحاب الهمة العالية والحلم والتمنى لأن يصبحوا زعماء المسقبل لأرض آبائهم."
أما عن سبب الاهتمام بالشباب، فقد علّل ذلك بكون المهام الجسام تلقى على عاتقهم. وعليه يجب أن يتم العناية بهم عناية فائقة و"تقدم لهم توجيهات خاصة تجعلهم يشعرون بمسؤولية رفع راية المجتمع."

وعلى الرغم من الملاحظات التي قد يبديها كل قارئ حسب اتجاهاته الفكرية والأدبية, إلا أن الرواية جيدة في مجملها لأنها تتناول إحدى قضايا اامجتمع في نيجيريا من زاوية أخرى. وبهذا يكون صاحب الرواية ساهم بما في مقدرته نحو تقدم بلاده, وهو بذلك يطبق ما دعا إليه الكاتب الأفريقي والاستشاري الشهير " إيدوو كوينيكان Idowu Koyenikan" عندما قال:
"لم يعد بإمكانك أن ترى أو تعرّف نفسك فقط كعضو في قبيلة، ولكن كمواطن من أمة من شعب واحد يعمل نحو هدف مشترك".